قال الله تعالى في فضل ليلة القدر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].
جدير بهذا الفضل الكبير الذي منحه الله تعالى لعباده في هذه الليلة
المباركة, أن نتفكر في قدره, ونستجلي ما فيه من جوانب الرحمة والإنعام؛ حتى
نستقبله بما يليق به من السعي في تحصيله, والشكر على تقديره.وبإجراء
عملية حسابية نجد أن ألف شهر = 83 سنة وأربعة أشهر, وقد ذكر المفسرون أن
معنى الآية أن العبادة في ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة
القدر. ومتوسط عمر الإنسان من 60 إلى 70 سنة, وقد جاء في الحديث: "أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين, وأقلهم من يجوز ذلك"[1].
فإذا حسبنا الوقت الذي يقضيه الإنسان في غير العبادة فسنجد ما يأتي:
هناك
ما يقرب من 15 سنة قبل سن التكليف. وما يقرب من 20 سنة في النوم, على أساس
أن الإنسان ينام ثلث اليوم وهو 8 ساعات, يعني ثلث عمره. وما يقرب من 20
سنة في العمل لكسب المال, أي بحساب متوسط ساعات العمل اليومي 8 ساعات, وهو
ثلث العمر. وما يقرب من سنتين في الطعام والشراب وقضاء الحاجة واللباس وما
شابه ذلك. ويتبقى من متوسط عمر الإنسان ما يقرب من 3 سنوات قد تزيد أو تقل
بحسب الأعمار واختلاف الأحوال.
فكم يقضي الإنسان من هذه السنوات الثلاثة في عبادة؟! وما هو قدر العبادات التي يمكن أن يقوم بها ليفوز بثوابها يوم القيامة؟
هنا
يتجلى الفضل الكبير الذي منحه الله تعالى لعباده؛ إذ شرع لهم العبادات
والقربات, وجعل لهم من الأسباب ما يضاعف أجرها أضعافًا مضاعفة, والله يضاعف
لمن يشاء, فمن أسباب مضاعفة ثواب العبادة شرف الزمان, كالعمل في هذه
الليلة المباركة, ليلة القدر التي جعل الله تعالى أجر العبادة فيها خيرًا
من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
إنها خسارة عظيمة لمن ضيع ساعات هذه الليلة دون أن يحظى بأجرها الكبير! فقد قال رسول الله : "إن هذا الشهر قد حضركم, وفيه ليلة خير من ألف شهر, من حُرمها فقد حرم الخير كله, ولا يُحرم خيرها إلا محروم"[2].
أهمية الدعاء في ليلة القدر
لكل عبادة مميزات تخصها, وميزة الدعاء أنه هو العبادة, كما في الحديث: "الدعاء هو العبادة".
أي من أعظم العبادة؛ لأن الدعاء يلزم أن يوطن العبد فيه نفسه على معاني
العبادة من الذل والخضوع والمسكنة. قال في مختصر منهاج القاصدين: اعلم أنه
ليس بعد تلاوة القرآن عبادة تُؤدى باللسان فقط أفضل من ذكر الله سبحانه
وتعالى, ورفع الحوائج بالأدعية الخالصة إليه تعالى. فقد روي عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- عن النبي أنه قال: "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء", "من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه".
وقال
مطرف بن عبد الله: تذاكرت: ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير الصيام
والصلاة, وإذا هو في يد الله تعالى, وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله
إلا أن تسأله فيعطيك, فإذا جماع الخير الدعاء.
وكل الأعمال الصالحة
وسيلة موصلة للفوز بفضل ليلة القدر وثوابها, إلا أن النصوص الشرعية نبهت
على وسيلتين مهمتين لتحصيل ثواب هذه الليلة وفضلها, الأولى هي صلاة القيام,
حيث قال : "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
والوسيلة الثانية التي توصل لفضل هذه الليلة هي الدعاء, حيث قال النبي
لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما سألته عن الدعاء في ليلة القدر:
"قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني". ولعل في ذكر آية الدعاء
بين آيات الصوم ما يشير إلى أهمية الدعاء في شهر رمضان عمومًا, قال سبحانه:
{وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
قال
في مختصر منهاج القاصدين: أما الليالي المخصوصات بمزيد الفضل التي يستحب
إحياؤها؛ فخمس عشرة ليلة, ولا ينبغي للمريد أن يغفل عنهن, لأنه إذا غفل
التاجر عن موسم الربح فمتى يربح؟ فمن هذه الليالي... أوتار العشر الأخير؛
إذ فيهن تُطلب ليلة القدر.
الصفات المناسبة للدعاء في ليلة القدر
وللمسلم
أن يدعو بما يريد من الأدعية, وله أن يرفع إلى الله تعالى حاجته فيما
يشاء, سواء كانت من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة, مع الالتزام بآداب الدعاء
الشرعية. ومع ذلك فإن مثل هذه الأوقات المباركة لا ينبغي للمسلم أن يغفل
فيها عن دعاء الله تعالى بطلب المغفرة وسؤال الجنة والنجاة من النار.
وليلة
القدر ساعات قليلة تمر سريعًا تشتد حاجة المسلم فيها, وفي أمثالها من
الأزمنة الفاضلة إلى أدعية لها مواصفات مخصوصة, تجمع له حاجاته الدينية
والدنيوية كلها, وقد ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: إني لا
أحمل همّ الإجابة, ولكن هم الدعاء؛ فإذا أُلهمت الدعاء علمت أن الإجابة
معه. إشارة منه إلى أهمية اختيار الدعاء المناسب الذي تتوفر فيه الصفات
المؤهلة للقبول والإجابة.
ومن هذه الصفات المهمة:
1-
أن يكون الثناء والتوسل بأسماء الله تعالى وصفاته مناسبين لمعنى الدعاء,
قال ابن القيم: قاعدة قد أشرنا إليها مرارًا, وهي أن من دعا الله تعالى
بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك
المطلوب المناسب لحصوله.
2- أن يكون جامعًا في معانيه, مناسبًا لحال الداعي, فقد كان يعجبه جوامع الكلم ويختاره على غيره من الذكر, كذلك كان يعجبه من الدعاء جوامعه؛ ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت: "كان النبي يعجبه الجوامع من الدعاء ويدع ما بين ذلك". وخرَّجه البزار وغيره من حديث عائشة -رضي الله عنها- أيضًا "أن النبي قال لها: يا عائشة، عليك بجوامع الدعاء". وعند الحاكم: "عليك بالكوامل".
ولن
يجد المسلم خيرًا من أدعية الكتاب والسنة؛ لأنها تجمع للمسلم ما يريد أن
يدعو به من خيري الدنيا والآخرة, قال ابن الجوزي وهو يذكر آداب الدعاء:
"الثَّامن عشر: الدُّعاءُ بالأَدْعيَةِ المَأْثُورةِ؛ فَإِنَّ تَعلِيمَ
الشَّرعِ خَيْرٌ مِنْ اخْتِيَارِ العَبْدِ".
ولعل هذا ما دفع أم
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- إلى السؤال عن الدعاء المناسب لتدعو به في
ليلة القدر, أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة قال: قالت عائشة: "يا
نبي
الله, أرأيتَ إن وافقتُ ليلة القدر ما أقول؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفو
تحب العفو فاعف عني". وفي رواية الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها-: "قالت:
قلت يا رسول الله: أرأيتَ إن علمتُ أيُّ ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟
قال: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني". قال أبو عيسى: هذا حديث
حسن صحيح.
ونلاحظ
هنا بوضوح هاتين الصفتين, ففيه الثناء اللائق بالله عز وجل مع مناسبة
الصفتين المذكورتين من صفات الله تعالى لمعنى الدعاء (عفو كريم), حيث يتم
التوسل بهما إلى الله تعالى في طلب العفو, وفيه شمول الدعاء للمعاني
المطلوبة في أوجز لفظ, وهذا بيان ذلك:
مناسبة هذا الدعاء لشهر رمضان:
قد
تغتر النفس؛ فتظن أنه قد أعطت لله تعالى حقه من الصوم والقيام والذكر,
لكنها حين تتفكر في دعاء ليلة القدر تجد أن هذا الدعاء يحمل معنى الانكسار
من عبد مليء بالعيوب والتقصير في حق ربه عز وجل, فهو يتوسل إلى ربه باسميه
العفُوّ والكريم، ليكون أرجى في نيل المغفرة والعفو والرحمة.
هذه هي الحال التي يريد منا الله تعالى أن نكون عليها, حيث علمها الرسول
لأم المؤمنين عائشة, ليس حال الممتن على الله تعالى بأعماله, أو حال
المستغني عن طلب العفو والمغفرة, أو الواثق من قبول عمله, وإنما هي حال
العبد الفقير الخاضع الذليل, المتوسل إلى ربه ليصفح عنه ويغفر له, ويقبل
عمله على ما فيه من تقصير. قال ابن الجوزي: وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة
القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون
في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحًا ولا حالاً ولا مقالاً,
فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصّر.
وقال ابن القيم: العبد
يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة مِنّته عليه ونعمته وحقوقه, وبين رؤية عيب
نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته, فهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد
عدل فيه, وأن أقضيته كلها عدل فيه, وأن ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته
وصدقته
عليه, ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار: "أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء
بذنبي". فلا يرى نفسه إلا مقصرًا مذنبًا, ولا يرى ربه إلا محسنًا متفضلاً.
وقال: وكان
يقول في سجوده أقرب ما يكون من ربه: "أعوذ برضاك من سخطك, وأعوذ بعفوك من
عقوبتك, وأعوذ بك منك, لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". وقال
لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق؛ وقد قالت له: يا رسول
الله، لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب
العفو فاعفو عني".
كيف نصل إلى عفو الله عز وجل ؟
والأسباب الموصلة إلى عفو الله تعالى كثيرة, منها التوبة, واتباع السيئة بالحسنة, ومسامحة الناس في ديونهم, كما في الحديث قال : "إن
رجلاً لم يعمل خيرًا قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك
ما عسر وتجاوز؛ لعل الله أن يتجاوز عنا. فلما هلك قال الله: هل عملت خيرًا
قط? قال: لا إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت
له: خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز؛ لعل الله أن يتجاوز عنا. قال الله:
قد تجاوزت عنك".
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: وهو تعالى
عفوٌّ يحب العفو عن عباده, ويحب منهم أن يسعوا بالأسباب التي ينالون بها
عفوه؛ من السعي في مرضاته, والإحسان إلى خلقه. ومن كمال عفوه أن المسرفين
على أنفسهم إذا تابوا إليه غفر لهم كل جرم صغير وكبير, وأنه جعل الإسلام
يجب ما قبله, والتوبة تجب ما قبلها.
مناسبة هذا الدعاء لليلة القدر:
وفي
دعاء ليلة القدر إشارة واضحة إلى أن أهم المطالب المناسبة لليلة القدر,
والتي ينبغي أن يركز المسلم همه فيها أكثر من غيرها, هي طلب العفو من الله
تعالى, مع ذلك فهو دعاء شامل لخيري الدنيا والآخرة, فمن عفا الله عنه نال
سعادة الدارين. قال في دليل الفالحين: وفيه -أي في الحديث- إيماء إلى أن
أهم المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب, وطهارته من دنس العيوب, فإن
بالطهارة من ذلك يتأهل للانتظام في سلك حزب الله, وحزب الله هم المفلحون.
إلا
أن من دواعي الحزن والأسى غفلة فئات من الناس عن هذه الليلة العظيمة؛
فمنهم من لا يشغل وقته بالتفكير فيها أو الاستعداد لها, ومنهم من يعرف
فضلها لكنه لا يعرف ماذا يفعل ليحسن استقبالها ويستثمر أوقاتها.
وتزداد
الغفلة سوءًا حين يقترن بها انحراف عن الفهم الصحيح للمقصود الأعظم من هذه
الليلة؛ فبعض العوام لا يعرف عن ليلة القدر إلا أنها الليلة التي تقع فيها
الحظوظ المالية كالعثور على كنز أو الحصول على مال, ويتناقل بعض العوام
القصص والحكايات عن فلان الذي رأى ليلة القدر فأصبح ثريًّا من الأغنياء,
حتى صار ذلك مضرب المثل لدى العامة, حين يتحول بعض الناس من الفقر إلى
الغنى يقولون: فلان (فتحت له طاقة القدر), أو (شاف ليلة القدر).
ومما
يشهد لذلك أن بعض الصحفيين المعروفين في مصر منذ ما يزيد على عقدين, قام
بتأسيس لجنة خيرية لمساعدة المحتاجين, وكان الاسم الذي اختاره لها هو (ليلة
القدر)؛ مما يدل على مدى تأصل المفهوم المادي وارتباطه بليلة القدر لدى
كثير من الناس, وهذا غاية ما يعرفون به ليلة القدر, قد يدعو إنسان بذلك
فيستجاب له, لكن ليس طلب الثراء هو غاية ما في ليلة القدر ولا هو مقصودها,
ولا لهذا كان فضلها وشرفها.
وعلى المستوى العام والمستوى الإعلامي
والرسمي؛ فكثير من الناس لا يعرف ليلة القدر إلا في صورة احتفالات موسمية,
رسمية أو غير رسمية, تقام في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان, ومع أن
تذكير الناس بفضائل هذه الليلة من الأمور المهمة؛ فإن تخصيص ذلك بيوم محدد
بدعة, قال الشيخ علي محفوظ في الإبداع في مضار الابتداع: إحياء هذه الليلة
بخصوصها وجعلها موسمًا لا أصل له, فهو بدعة مضافة إلى إحيائها بغير ما رغّب
الشارع فيه.
ويزداد الأسى حين ترى من يقضي الأيام التي تقع فيها
ليلة القدر في اللهو والباطل, من الأفلام والمسلسلات, أو الأغاني
والموسيقى, أو الكلام الفارغ واللعب.
جاء في لطائف المعارف أن يحيى بن معاذ قال: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.
يا رب عبــــدك قد أتا *** ك وقد أســاء وقد هفـا
يكفـــيه منك حيــاؤه *** من ســوء ما قد أسلفـا
حمـــل الذنوب على الذنو *** ب الموبقــات وأسـرفـا
وقد اسـتجار بذيل عفــو *** ك من عقـــابك ملحفـا
رب اعـف وعافـــــه *** فلأنت أولى مــن عفــا
المصدر: موقع المسلم، باختصار وتصرف.