عادات وتقاليد، قصص وحكايات، غرائب ومعالم، بلدان وشعوب، جبال ووديان وبوادٍ، أفراح وأتراح، علوم ومعارف.. هذه باختصار كانت محصلة نحو 29 عامًا قضاها الرحّالة المسلم «ابن بطوطة» متجولًا من بلد إلى بلد، قاصدًا الحصول على المعرفة ونقلها إلى الآخرين للاستفادة منها، ومعرفة تاريخ البلدان وجغرافيتها وهي التي أفادت الجغرافيين حتى اليوم..
اشتهر الرحالة الإيطالي «ماركو بولو» المولود في 15 سبتمبر 1254م والمتوفى في 8 يناير 1324م بأنه أشهر رحالة الغرب في العصور الوسطى قاطبة، وعد شيخ رحالة الغرب بلا منافس، في المقابل اعتبر كثير من الباحثين والمؤرخين أبي عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، المعروف بـ«ابن بطوطة» المولود في طنجة بالمغرب سنة 703هـ- 1304م الند العربي للرحالة الإيطالي عن جدارة، لاسيما أن «ابن بطوطة» تفوق عليه في أسفاره العديدة التي لم تترك بلدًا تعلوه راية الإسلام إلا زاره، وكتب عنه، وأحصى كل عاداته ومعارفه وأحداثه آنذاك.
خرج بلا أنيس
ولد ابن بطوطة لعائلة عرف عنها عملها في القضاء، لذلك درس في صباه الشريعة، وقرر عام 1325 وهو ابن 20 عامًا، أن يخرج لأداء فريضة الحج، وليتعلم المزيد من علوم الشريعة في أنحاء بلاد الإسلام.. بدأ رحلته الأولى من مدينة طنجة قاصدًا مكة المكرمة للحج وزيارة المدينة المنورة، وعمره لم يتجاوز إحدى وعشرين سنة، كان الغرض من هذه الرحلة أن يُمضي أشهرًا عدة في زيارة أهم الأماكن الإسلامية، وهو في طريقه للبلاد المقدسة، لكنه آثر أن يبقى عامًا للدراسة بمكة والمدينة؛ ليتمكن حين يعود إلى بلاده من القيام بمهام القاضي الشرعي، وقد وجد ابن بطوطة في رحلته ترحيبًا شديدًا من المجتمعات الإسلامية، حيثما حلَّ، وكان يُدعى باعتباره من رجال الدين ليتحدث إلى الأمراء المسلمين.
ومر «ابن بطوطة» في أول رحلة له بالجزائر وتونس ومصر وفلسطين وسورية، ومنها إلى مكة.. وعن تلك الرحلة سجل في مذكراته ما يلي: «كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس 2 رجب 725هـ- 1324م معتمدًا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، منفردًا عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة.. فجزمت نفسي على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبًا، ولقيت كما لقيا نصبًا».
وقد اتسع نطاق رحلته دون أن يخطط لذلك، ولم يمكنه حاجز اللغة في البداية من كسب ثقة المناطق التي مرّ عليها، لكنه واصل سعيه بها، وتحدّث لسانها، وحقق غرضه.. واتصل بكثير من الملوك والأمراء، وعندما وصلت رحلته إلى نهايتها بدأ في كتابة مغامراته واصفًا ما لقيه فيها من أشياء مدهشة وعجيبة.
في البلاد والأصقاع
قام ابن بطوطة بثلاث رحلات، قطع فيها ما مجموعه تقريبًا (120701كم)، وقد استغرق في مجموعها نحو تسع وعشرين سنة، وكان أطولها الرحلة الأولى التي زار خلالها معظم نواحي المغرب والمشرق، وكانت أطول إقامة له في بلاد الهند، حيث تولى القضاء سنتين، ثم في الصين حيث تولى القضاء سنة ونصف، وفي هذه الفترة وصف كل ما شاهده وعاينه فيهما، ومن الغرائب التي ذكرها عن نظام التأمين الاجتماعي في الصين أن العامل أو الصانع كان يُعفى من العمل وتنفق عليه الحكومة إذا بلغ الخمسين، وأن من بلغ ستين سنة عَدّوه كالصبي الذي لا تنفذ فيه الأحكام.
كما ذكر كل من عرفه من سلاطين ورجال ونساء، ووصف ملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم وضيافتهم، وما حدث في أثناء إقامته من حوادث وحروب وغزو وفتك بالسلاطين والأمراء ورجال الدين، وكان في خلال إقامته هذه مندفعا بعاطفته الدينية إلى لزوم المساجد، فلم يدع مسجدًا إلا زاره ونزل ضيفا عليه.
ولم يكن ابن بطوطة في أثناء تدوين رحلاته عالمًا لغويًّا ولا منشئًا بديعًا، لكنه كان رحالة يطوف البلاد والأصقاع، وعلى الرغم مما أتى به في رحلاته من عجيب الخلق والعادات، فإن قصص رحلاته كانت أطرف القصص وأجزلها نفعا من حيث تسجيل عادات الأقوام وتقاليدهم ولباسهم ومآكلهم ومشاربهم، كما أن هذه الرحلة الطويلة امتازت بفوائد تاريخية وجغرافية لما ذكره فيها من وصف البلاد، جوها، تربتها، جبالها، بحارها، ومن ضبط دقيق لأسماء الرجال والنساء والأماكن والمدن والزوايا وغيرها.. وفتحت رحلاته بابًا ولج منه المسلمون إلى عوالم كانت من قبل مجهولة لهم، كما أثْرت المكتبة العربية الإسلامية بمؤلف عظيم هو «تُحْفَةُ النُظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، تحدث فيه عن كل ما رآه في بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين والجاوة وبلاد التتار وأواسط أفريقيا.. كما تنقل من إثيوبيا جنوبًا إلى فارس شمالًا.
وصف دقيق
لم تكن رحلات «ابن بطوطة» بنفس اليسر الذي تتسم به رحلات العصر الحديث، إنما كان السفر آنذاك شاقًّا مرهقًا خطرًا عبر هذه المسافات الشاسعة، وكانت المغامرة بدخول أراضٍ غريبة مجازفة، غير أنه اتسم بجرأة وعزيمة أهلاه لأن يخوض رحلته وحيدًا على حمار.. وقام بوصف مفصل لكل ما صادفه في طريقه، وذكر جميع الأحداث التي مرت به، فذكر الطرق والبلاد والقصور وأبواب المدن ومعالمها والأشخاص الذين مروا عليه، والأحداث التي حدثت بينهم سواء تشاجر مع أحد أو تقابل مع آخر فأكرمه، حتى فترات مرضه ذكرها أيضًا، ولم يغفل نقطة مهما كانت بساطتها، فيقول في وصفه لمدينة الإسكندرية المصرية: «وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية- حرسها الله، وهي الثغر المحروس والقطر المأنوس، العجيبة الشأن، الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، كرمت مغانيها، ولطفت معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها».. كما بهرته أيضًا مدينة القاهرة ووصفها قائلًا: «أم المدن، سيدة الأرياف العريضة، والأراضي المثمرة، لا حدود لمبانيها الكثيرة، لا نظير لجمالها وبهائها، ملتقى الرائح والغادي، سوق الضعيف والقوي.. تمتد كموج البحر بما فيها من خلق بالكاد تسعهم».
تحفة الأنظار
وبعد نحو ثلاثين عامًا من الترحال والاستكشاف، بدأ ابن بطوطة طريق عودته إلى وطنه، إلى مدينة فاس في المغرب.. وهناك في بلاط السلطان «ابن عنان» قرأ أوصاف ما رآه في أسفاره على «محمد بن جزي الكلبي» الذي خط منها كتاب «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، والذي ترجم إلى العديد من اللغات مثل البرتغالية والإنجليزية والفرنسية، والألمانية والأمازيغية، وعلى الرغم من عدم توافر معلومات وافية عن السنوات الأخيرة من عمره، إلا أن المعروف أنه توفي عن عمر 65 عامًا.. وظل بعد سنين طويلة من وفاته صاحب أطول أسفار في العالم.
وقد طبعت رحلته في باريس مع ترجمة فرنسية في منتصف القرن التاسع عشر على يد المستشرق ديفريمري وسانجنيتي، وطبعت في القاهرة طبعتان عربيتان، كما طبعت في لبنان في سلسلة الروائع اللبنانية، تحقيق فؤاد أفرام البستاني، وكذلك تُرجمت إلى كثير من لغات العالم، مما يدل على مدى أهمية تلك الرحلة، وانتهت أطول رحلة في العالم والتاريخ بوفاة ابن بطوطة في مراكش عام 779هـ- 1377م.
هكذا رآه المستشرقون
عن كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» يقول المستشرق ريجيش بلاشير: «لهذا الكتاب أهمية فائقة في التعرف على العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الميلادي، ففيه يكثر الاستطراد وتختلط الأساطير مع الحكايات البعيدة عن التصديق، والأوصاف المتكررة تكشف فيها أيضًا معلومات تاريخية دقيقة ومفيدة، لاسيما تلك التي لا تحصى والمتعلقة بعقائد وعادات وأخلاق السكان كما يراها هذا الرحالة المسلم، الذي يتفوق عنده حبُّ الاستطلاع على حدَّة الذكاء».
بدوره، اعتبره المستشرق الروسي كراتشكوفسكي آخر جغرافي عالمي من الناحية العلمية، أي أنه لم يكن نقَّالة اعتمد على كتب الغير؛ بل كان رحالة انتظم محيط أسفاره عددًا كبيرًا من الأقطار، وجاوز تجواله مقدار مائة وخمسة وسبعين ألف ميل، وهو بهذا يُعَدُّ منافسًا خطيرًا لمعاصره الأكبر منه سنًّا (ماركو بولو) البندقي الإيطالي.
ويقول الباحث الياباني ياموتو: «من العسير القول بأن جميع حكايات ابن بطوطة عن الصين هي من نسج الخيال وحده، حقًّا إن وصفه لتلك البلاد يشمل عددًا من النقاط الغامضة، لكنه لا يخلو من فقرات معينة تعتمد على ملاحظة مباشرة، فضلًا على أنه من المستحيل القول بأن رواياته التي وجدت توكيدًا في المصادر الصينية وفي أسفار ماركو بولو قد كانت من تلفيق مخيلته».
زار بلاد كل حاكم مسلم من حكام عصره.. ومكة كانت هدفه الأول
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي الكويتية
اشتهر الرحالة الإيطالي «ماركو بولو» المولود في 15 سبتمبر 1254م والمتوفى في 8 يناير 1324م بأنه أشهر رحالة الغرب في العصور الوسطى قاطبة، وعد شيخ رحالة الغرب بلا منافس، في المقابل اعتبر كثير من الباحثين والمؤرخين أبي عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، المعروف بـ«ابن بطوطة» المولود في طنجة بالمغرب سنة 703هـ- 1304م الند العربي للرحالة الإيطالي عن جدارة، لاسيما أن «ابن بطوطة» تفوق عليه في أسفاره العديدة التي لم تترك بلدًا تعلوه راية الإسلام إلا زاره، وكتب عنه، وأحصى كل عاداته ومعارفه وأحداثه آنذاك.
خرج بلا أنيس
ولد ابن بطوطة لعائلة عرف عنها عملها في القضاء، لذلك درس في صباه الشريعة، وقرر عام 1325 وهو ابن 20 عامًا، أن يخرج لأداء فريضة الحج، وليتعلم المزيد من علوم الشريعة في أنحاء بلاد الإسلام.. بدأ رحلته الأولى من مدينة طنجة قاصدًا مكة المكرمة للحج وزيارة المدينة المنورة، وعمره لم يتجاوز إحدى وعشرين سنة، كان الغرض من هذه الرحلة أن يُمضي أشهرًا عدة في زيارة أهم الأماكن الإسلامية، وهو في طريقه للبلاد المقدسة، لكنه آثر أن يبقى عامًا للدراسة بمكة والمدينة؛ ليتمكن حين يعود إلى بلاده من القيام بمهام القاضي الشرعي، وقد وجد ابن بطوطة في رحلته ترحيبًا شديدًا من المجتمعات الإسلامية، حيثما حلَّ، وكان يُدعى باعتباره من رجال الدين ليتحدث إلى الأمراء المسلمين.
ومر «ابن بطوطة» في أول رحلة له بالجزائر وتونس ومصر وفلسطين وسورية، ومنها إلى مكة.. وعن تلك الرحلة سجل في مذكراته ما يلي: «كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس 2 رجب 725هـ- 1324م معتمدًا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، منفردًا عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة.. فجزمت نفسي على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبًا، ولقيت كما لقيا نصبًا».
وقد اتسع نطاق رحلته دون أن يخطط لذلك، ولم يمكنه حاجز اللغة في البداية من كسب ثقة المناطق التي مرّ عليها، لكنه واصل سعيه بها، وتحدّث لسانها، وحقق غرضه.. واتصل بكثير من الملوك والأمراء، وعندما وصلت رحلته إلى نهايتها بدأ في كتابة مغامراته واصفًا ما لقيه فيها من أشياء مدهشة وعجيبة.
في البلاد والأصقاع
قام ابن بطوطة بثلاث رحلات، قطع فيها ما مجموعه تقريبًا (120701كم)، وقد استغرق في مجموعها نحو تسع وعشرين سنة، وكان أطولها الرحلة الأولى التي زار خلالها معظم نواحي المغرب والمشرق، وكانت أطول إقامة له في بلاد الهند، حيث تولى القضاء سنتين، ثم في الصين حيث تولى القضاء سنة ونصف، وفي هذه الفترة وصف كل ما شاهده وعاينه فيهما، ومن الغرائب التي ذكرها عن نظام التأمين الاجتماعي في الصين أن العامل أو الصانع كان يُعفى من العمل وتنفق عليه الحكومة إذا بلغ الخمسين، وأن من بلغ ستين سنة عَدّوه كالصبي الذي لا تنفذ فيه الأحكام.
كما ذكر كل من عرفه من سلاطين ورجال ونساء، ووصف ملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم وضيافتهم، وما حدث في أثناء إقامته من حوادث وحروب وغزو وفتك بالسلاطين والأمراء ورجال الدين، وكان في خلال إقامته هذه مندفعا بعاطفته الدينية إلى لزوم المساجد، فلم يدع مسجدًا إلا زاره ونزل ضيفا عليه.
ولم يكن ابن بطوطة في أثناء تدوين رحلاته عالمًا لغويًّا ولا منشئًا بديعًا، لكنه كان رحالة يطوف البلاد والأصقاع، وعلى الرغم مما أتى به في رحلاته من عجيب الخلق والعادات، فإن قصص رحلاته كانت أطرف القصص وأجزلها نفعا من حيث تسجيل عادات الأقوام وتقاليدهم ولباسهم ومآكلهم ومشاربهم، كما أن هذه الرحلة الطويلة امتازت بفوائد تاريخية وجغرافية لما ذكره فيها من وصف البلاد، جوها، تربتها، جبالها، بحارها، ومن ضبط دقيق لأسماء الرجال والنساء والأماكن والمدن والزوايا وغيرها.. وفتحت رحلاته بابًا ولج منه المسلمون إلى عوالم كانت من قبل مجهولة لهم، كما أثْرت المكتبة العربية الإسلامية بمؤلف عظيم هو «تُحْفَةُ النُظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، تحدث فيه عن كل ما رآه في بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين والجاوة وبلاد التتار وأواسط أفريقيا.. كما تنقل من إثيوبيا جنوبًا إلى فارس شمالًا.
وصف دقيق
لم تكن رحلات «ابن بطوطة» بنفس اليسر الذي تتسم به رحلات العصر الحديث، إنما كان السفر آنذاك شاقًّا مرهقًا خطرًا عبر هذه المسافات الشاسعة، وكانت المغامرة بدخول أراضٍ غريبة مجازفة، غير أنه اتسم بجرأة وعزيمة أهلاه لأن يخوض رحلته وحيدًا على حمار.. وقام بوصف مفصل لكل ما صادفه في طريقه، وذكر جميع الأحداث التي مرت به، فذكر الطرق والبلاد والقصور وأبواب المدن ومعالمها والأشخاص الذين مروا عليه، والأحداث التي حدثت بينهم سواء تشاجر مع أحد أو تقابل مع آخر فأكرمه، حتى فترات مرضه ذكرها أيضًا، ولم يغفل نقطة مهما كانت بساطتها، فيقول في وصفه لمدينة الإسكندرية المصرية: «وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية- حرسها الله، وهي الثغر المحروس والقطر المأنوس، العجيبة الشأن، الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، كرمت مغانيها، ولطفت معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها».. كما بهرته أيضًا مدينة القاهرة ووصفها قائلًا: «أم المدن، سيدة الأرياف العريضة، والأراضي المثمرة، لا حدود لمبانيها الكثيرة، لا نظير لجمالها وبهائها، ملتقى الرائح والغادي، سوق الضعيف والقوي.. تمتد كموج البحر بما فيها من خلق بالكاد تسعهم».
تحفة الأنظار
وبعد نحو ثلاثين عامًا من الترحال والاستكشاف، بدأ ابن بطوطة طريق عودته إلى وطنه، إلى مدينة فاس في المغرب.. وهناك في بلاط السلطان «ابن عنان» قرأ أوصاف ما رآه في أسفاره على «محمد بن جزي الكلبي» الذي خط منها كتاب «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، والذي ترجم إلى العديد من اللغات مثل البرتغالية والإنجليزية والفرنسية، والألمانية والأمازيغية، وعلى الرغم من عدم توافر معلومات وافية عن السنوات الأخيرة من عمره، إلا أن المعروف أنه توفي عن عمر 65 عامًا.. وظل بعد سنين طويلة من وفاته صاحب أطول أسفار في العالم.
وقد طبعت رحلته في باريس مع ترجمة فرنسية في منتصف القرن التاسع عشر على يد المستشرق ديفريمري وسانجنيتي، وطبعت في القاهرة طبعتان عربيتان، كما طبعت في لبنان في سلسلة الروائع اللبنانية، تحقيق فؤاد أفرام البستاني، وكذلك تُرجمت إلى كثير من لغات العالم، مما يدل على مدى أهمية تلك الرحلة، وانتهت أطول رحلة في العالم والتاريخ بوفاة ابن بطوطة في مراكش عام 779هـ- 1377م.
هكذا رآه المستشرقون
عن كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» يقول المستشرق ريجيش بلاشير: «لهذا الكتاب أهمية فائقة في التعرف على العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الميلادي، ففيه يكثر الاستطراد وتختلط الأساطير مع الحكايات البعيدة عن التصديق، والأوصاف المتكررة تكشف فيها أيضًا معلومات تاريخية دقيقة ومفيدة، لاسيما تلك التي لا تحصى والمتعلقة بعقائد وعادات وأخلاق السكان كما يراها هذا الرحالة المسلم، الذي يتفوق عنده حبُّ الاستطلاع على حدَّة الذكاء».
بدوره، اعتبره المستشرق الروسي كراتشكوفسكي آخر جغرافي عالمي من الناحية العلمية، أي أنه لم يكن نقَّالة اعتمد على كتب الغير؛ بل كان رحالة انتظم محيط أسفاره عددًا كبيرًا من الأقطار، وجاوز تجواله مقدار مائة وخمسة وسبعين ألف ميل، وهو بهذا يُعَدُّ منافسًا خطيرًا لمعاصره الأكبر منه سنًّا (ماركو بولو) البندقي الإيطالي.
ويقول الباحث الياباني ياموتو: «من العسير القول بأن جميع حكايات ابن بطوطة عن الصين هي من نسج الخيال وحده، حقًّا إن وصفه لتلك البلاد يشمل عددًا من النقاط الغامضة، لكنه لا يخلو من فقرات معينة تعتمد على ملاحظة مباشرة، فضلًا على أنه من المستحيل القول بأن رواياته التي وجدت توكيدًا في المصادر الصينية وفي أسفار ماركو بولو قد كانت من تلفيق مخيلته».
زار بلاد كل حاكم مسلم من حكام عصره.. ومكة كانت هدفه الأول
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي الكويتية