السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أجمع العلماء علي أن الحضارة الإسلامية تحتل مكانة رفيعة بين الحضارات الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمراً، وأعظمها أثراً في الحضارة العالمية، من خصائص الحضارة الإسلامية أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الكريم أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه فى قوله تعالى: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التى خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية؛ ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبوحنيفة ومالك والشافعى وأحمد والخليل وسيبويه والكندى والغزالى والفارابى وابن رشد..... وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنسانى السليم.
وإذا كانت الحضارة الرومانية قد اشتهرت بالطرق التى تربط بين أرجاء الإمبراطورية، فإنها قد عرفت كذلك بالحواجز التى أقامتها بين الفئات المختلفة من رعاياها، إذ فرّقت فى الحقوق بين سكان روما وسكان سائر إيطاليا ثم بين الرومان وسائر رعايا البلاد المفتوحة، وبين الذين خضعوا للإمبراطورية ومن كانوا خارجها الذين أطلقت عليهم "برابرة".
أما حضارة الإسلام فقد أزالت الحواجز والمسافات بين البشر وأمامهم على الأرض سواءً بسواء، وكانت مراكز البريد تعين على التنقل فى أرجاء دار الإسلام المترامية، ووجدت "الأربطة" أو"الرباطات" بفعل الجماعة ذاتها فيما بعد تستضيف العابرين وتقدم لهم ولدوابهم الطعام والمأوى، ويذكر الإصطخرى -الجغرافى المسلم- مثلاً عن مسلمى ما وراء النهر: "وأما سماحتهم فإن الناس فى أكثر ما وراء النهر كأنهم فى دار واحدة ما ينزل أحد بأحد إلا كأنه داخل دار نفسه..."، وهكذا أزالت الحضارة الإسلامية الحواجز النفسية والمكانية بين أبنائها فى مختلف أنحاء العالم فكانت بحق إنسانية عالمية.
وهي حضارة إنسانية:
تقرر العدل والمساواة بين الناس دون النظر إلى ألوانهم أوأجناسهم، فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أصبحت عدالة الإسلام وحضارته للإنسان بإطلاق أيا كان أصله العرقى، أواللغوى، أوطبقته، أوعقيدته..
وقد وقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى حجة الوداع ليعلن فى خطابه الخالد: (الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربىّ على أعجمىّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى). ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التى تعلن فى مناسبات متعددة كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادى لا يلفت نظرًا، ولا يحتاج إلى تصنع أوعناد، فقد نُفذت فى المساجد حيث كان يلتقى فيها الأبيض والأسود على صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه، ونفذت فى الحج حيث تلتقى العناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد وبثياب واحدة من غير تمييز بين أبيض وأسود أواستعلاء من البيض على السود، بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فلقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بلالا الحبشىّ يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هى الحرم المقدس عند العرب فى الجاهلية وهى القبلة المعظمة فى الإسلام. ولم يرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبى ذر وهومن أكرم صحابته أن يسب آخر فيقول له يا ابن السوداء بل قرَّعه وقال له: (أعيَّرته بسواد أمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!) وهذا حد فاصل بين العلم والجهل، بين الحضارة الإنسانية والحضارة الجاهلية. ولقد كان فى الحضارة الإسلامية المتميزون فى كل ميادين العلم والأدب وهم سود البشرة لم يمنعهم سوادهم أن يكونوا أدباء ينادمون الخلفاء كالشاعر نصيب أوعلماء أجلاء يتخرج على يديهم الألوف من البيض كالفقيه الجليل عطاء بن أبى رباح. وفى تاريخنا عشرات المواقف والأمثلة للمساواة العنصرية فى ظل الحضارة الإسلامية.
وهي حضارة اقتصادية:
كما نعرف أن دين الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ووضع أسس العقيدة النقية ونظم العلاقات على كل المستويات لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا في كل شئ عقديًا وسلوكيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وحضاريًا.
ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل كافة القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية والتي شملت أمور الحكم والإدارة والسلام والحب والاجتماع والاقتصاد وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة التي هي المحتوي العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.
* بيت المال 'وزارة المالية':
تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت 'بيت المال', ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر، إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: 'أطيب' قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.
ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يرد على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم 'مبدأ فصل السلطات'.
وتعالوا سويًا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت والذي يمثل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.
موارد بيت المال:
تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة [إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص].
وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع [[إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...]] وهذه الموارد كما يلي:
[1] أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يرد إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي والذي لا يعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام، [1] زكاة النقد [2] زكاة السوائم والأنعام والماشية [3] زكاة الزروع والثمار [4] زكاة الركاز والمعادن.
وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.
[2] ثانيًا: الخراج: لما فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يقسم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وأية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألح عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر هذا الأرض عليها مقدار معين من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:
1ـ الأراضي التي فتحت عنوة وبقى عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.
2ـ الأراضي التي فتحت صلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقي في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.
وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.
مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.
كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟
لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قبله رجالاً لمسح أرض السواد 'بالعراق' فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3,5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.
المصادر والمراجع:
1- العلوم والفنون في الحضارة الإسلامية للدكتور تاج السر الحران نشر دار إشبيليا للنشر والتوزيع في الرياض.
2- أثر العلماء المسلمين في الحضارة ألأروبية لأحمد علي الملا .
3- الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز.
4- الحضارة الإسلامية وأثرها في الغرب، لإسماعيل أحمد ياغي.
5- من روائع الحضارة الإسلامية بحث منشور في موقع مفكرة الإسلامwww.islammemo.cc
6- موقع إسلام أونلاين نافذة الحضارة www.islamonline.net
7- أهمية العلم في الإسلام مقال منشور في موقع الباحث الإسلامي للكاتب فضل الله ممتاز www.islamicfinder.org
باحث ومحرر ومنسق علمي لمجلة البحوث الفقهية المعاصرة ومحرر موقع الباحث الإسلامي في الرياض.
منقول
أجمع العلماء علي أن الحضارة الإسلامية تحتل مكانة رفيعة بين الحضارات الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمراً، وأعظمها أثراً في الحضارة العالمية، من خصائص الحضارة الإسلامية أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الكريم أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه فى قوله تعالى: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التى خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية؛ ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبوحنيفة ومالك والشافعى وأحمد والخليل وسيبويه والكندى والغزالى والفارابى وابن رشد..... وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنسانى السليم.
وإذا كانت الحضارة الرومانية قد اشتهرت بالطرق التى تربط بين أرجاء الإمبراطورية، فإنها قد عرفت كذلك بالحواجز التى أقامتها بين الفئات المختلفة من رعاياها، إذ فرّقت فى الحقوق بين سكان روما وسكان سائر إيطاليا ثم بين الرومان وسائر رعايا البلاد المفتوحة، وبين الذين خضعوا للإمبراطورية ومن كانوا خارجها الذين أطلقت عليهم "برابرة".
أما حضارة الإسلام فقد أزالت الحواجز والمسافات بين البشر وأمامهم على الأرض سواءً بسواء، وكانت مراكز البريد تعين على التنقل فى أرجاء دار الإسلام المترامية، ووجدت "الأربطة" أو"الرباطات" بفعل الجماعة ذاتها فيما بعد تستضيف العابرين وتقدم لهم ولدوابهم الطعام والمأوى، ويذكر الإصطخرى -الجغرافى المسلم- مثلاً عن مسلمى ما وراء النهر: "وأما سماحتهم فإن الناس فى أكثر ما وراء النهر كأنهم فى دار واحدة ما ينزل أحد بأحد إلا كأنه داخل دار نفسه..."، وهكذا أزالت الحضارة الإسلامية الحواجز النفسية والمكانية بين أبنائها فى مختلف أنحاء العالم فكانت بحق إنسانية عالمية.
وهي حضارة إنسانية:
تقرر العدل والمساواة بين الناس دون النظر إلى ألوانهم أوأجناسهم، فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أصبحت عدالة الإسلام وحضارته للإنسان بإطلاق أيا كان أصله العرقى، أواللغوى، أوطبقته، أوعقيدته..
وقد وقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى حجة الوداع ليعلن فى خطابه الخالد: (الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربىّ على أعجمىّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى). ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التى تعلن فى مناسبات متعددة كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادى لا يلفت نظرًا، ولا يحتاج إلى تصنع أوعناد، فقد نُفذت فى المساجد حيث كان يلتقى فيها الأبيض والأسود على صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه، ونفذت فى الحج حيث تلتقى العناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد وبثياب واحدة من غير تمييز بين أبيض وأسود أواستعلاء من البيض على السود، بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فلقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بلالا الحبشىّ يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هى الحرم المقدس عند العرب فى الجاهلية وهى القبلة المعظمة فى الإسلام. ولم يرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبى ذر وهومن أكرم صحابته أن يسب آخر فيقول له يا ابن السوداء بل قرَّعه وقال له: (أعيَّرته بسواد أمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!) وهذا حد فاصل بين العلم والجهل، بين الحضارة الإنسانية والحضارة الجاهلية. ولقد كان فى الحضارة الإسلامية المتميزون فى كل ميادين العلم والأدب وهم سود البشرة لم يمنعهم سوادهم أن يكونوا أدباء ينادمون الخلفاء كالشاعر نصيب أوعلماء أجلاء يتخرج على يديهم الألوف من البيض كالفقيه الجليل عطاء بن أبى رباح. وفى تاريخنا عشرات المواقف والأمثلة للمساواة العنصرية فى ظل الحضارة الإسلامية.
وهي حضارة اقتصادية:
كما نعرف أن دين الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ووضع أسس العقيدة النقية ونظم العلاقات على كل المستويات لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا في كل شئ عقديًا وسلوكيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وحضاريًا.
ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل كافة القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية والتي شملت أمور الحكم والإدارة والسلام والحب والاجتماع والاقتصاد وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة التي هي المحتوي العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.
* بيت المال 'وزارة المالية':
تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت 'بيت المال', ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر، إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: 'أطيب' قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.
ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يرد على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم 'مبدأ فصل السلطات'.
وتعالوا سويًا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت والذي يمثل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.
موارد بيت المال:
تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة [إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص].
وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع [[إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...]] وهذه الموارد كما يلي:
[1] أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يرد إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي والذي لا يعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام، [1] زكاة النقد [2] زكاة السوائم والأنعام والماشية [3] زكاة الزروع والثمار [4] زكاة الركاز والمعادن.
وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.
[2] ثانيًا: الخراج: لما فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يقسم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وأية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألح عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر هذا الأرض عليها مقدار معين من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:
1ـ الأراضي التي فتحت عنوة وبقى عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.
2ـ الأراضي التي فتحت صلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقي في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.
وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.
مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.
كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟
لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قبله رجالاً لمسح أرض السواد 'بالعراق' فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3,5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.
المصادر والمراجع:
1- العلوم والفنون في الحضارة الإسلامية للدكتور تاج السر الحران نشر دار إشبيليا للنشر والتوزيع في الرياض.
2- أثر العلماء المسلمين في الحضارة ألأروبية لأحمد علي الملا .
3- الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز.
4- الحضارة الإسلامية وأثرها في الغرب، لإسماعيل أحمد ياغي.
5- من روائع الحضارة الإسلامية بحث منشور في موقع مفكرة الإسلامwww.islammemo.cc
6- موقع إسلام أونلاين نافذة الحضارة www.islamonline.net
7- أهمية العلم في الإسلام مقال منشور في موقع الباحث الإسلامي للكاتب فضل الله ممتاز www.islamicfinder.org
باحث ومحرر ومنسق علمي لمجلة البحوث الفقهية المعاصرة ومحرر موقع الباحث الإسلامي في الرياض.
منقول