أين اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم
ولو شئت أن تعرف الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه، فقد قال نافع مولى ابن عمر: >وقد أراني عبدالله بن عمر المكان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه من المسجد<(11)·
نعم! هذا هو اتباع الأثر، وتعقب السنَّة، واقتفاء السبيل، وهذا هو طريق الهدي وأصل الفلاح·
وهذا المكان تحدده رواية ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء إسطوانة التوبة<(12)· وهذا حديث حسن جداً، قال عنه البوصيري: >هذا إسناد صحيح رجاله موثوقون<(13)· واسطوانة التوبة هي التي تاب عندها أبو لباية ـ وهو رفاعة بن عبدالمنذر ـ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكان حليفاً لبني قريظة، فأشار إليهم بما أفهمهم حكم النبي فيهم، وهو الذبح، فأراد أن يتوب، فانطلق إلى المسجد وربط نفسه باسطوانة من أساطينه بضع عشرة ليلة حتى تاب الله عنه وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم(14)·
وهذه الاسطوانة هي الرابعة من ناحية المنبر، فهي تلي اسطوانة عائشة من جهة المشرق بلا فاصل، وهي الثانية من ناحية القبر، والثالثة من ناحية القبلة، وشرقي هذه الاسطوانة تقع اسطوانة أخرى اسمها >اسطوانة السرير<، ذكر أن سرير النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضع عندها ـ حتى ظن ابن فرحون أن هذه الاسطوانة هي عينها اسطوانة التوبة(15)، لكن يبدو أن السرير كان يوضع بين الاسطوانتين، لأنه كان يوضع >وراء اسطوانة التوبة< يعني أمام الاسطوانة الشرقية، وهذا يجمع بين الاسمين· وقد يكون ما أورده صاحب الذخائر القدسية من أن النبي كان يعتكف وراء اسطوانة التوبة من ناحية القبلة يساعد على هذا الجمع بين التسميات(16)·
الخباء والخلوة الصحيحة
ومعروف من خلال كتب الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف ضرب له خباء، وهو قبة تشبه الخيمة، وهذا أعون على الخلوة، والانصراف إلى الله، والانقطاع عن الشواغل الخارجية، وفي هذا تمام السكينة بمناجاة الحق سبحانه، ونستعير من الإمام ابن القيم هذه الكلمات التي يتحدث فيهن عن خلوة المعتكف بأن الله تعالى: >··· شرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده، وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه ـ بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليها بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره، والفكرة في تحصيل مراضيه··· فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق··· فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم<(17)·
ويقول القرطبي في المفهم: >في قبة تركية: هي قبة صغيرة من لبد<(18)·
ولا شك أن اختيار الخوص والحصير واللباد ـ مع وجود أنواع القماش ـ يوحي بالتقشف والتقلل من المتاع، وهذا مناسب للخلوة بالجليل سبحانه·
فأما خباء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يتخذه فهو >قبة تركية على سدتها قطعة حصير< على حد تعبير أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صحيح ابن خزيمة(19)، ويفسر لنا الرواة ذلك بأنها قبة خوص بابها من حصير<(20)·
وقت اعتكافه صلى الله عليه وسلم
أما عن زمان اعتكافه صلى الله عليه وسلم فالثابت الذي لا ريب فيه ولا اختلاف أنه اعتكف في رمضان، وأنه قضى الاعتكاف مرة في شوال، وكذلك الثابت أن آخر الأمر هو اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان، وهو المستفاد من حديث عائشة الآنف، >أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى<·
إلا أن الأمر الذي تتداوله الرواة هو أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف أولاً في العشر الأوائل، ثم في العشر الأوسط، يدل على ذلك حديث أبي سعيد عند ابن خزيمة والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر والأوسط ـ وذلك التماساً لليلة القدر ـ فلما أوحى إليه أنها في العشر الأواخر مكث العشر الأواخر، ثم ظل على اعتكاف هؤلاء العشر حتى توفاه الله<(21)، ومثل هذا روي عن أم سلمة عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتكف أول سنة العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: >إني رأيت ليلة القدر فيها فأنسيتها<· فلم يزل يعتكف فيهن حتى قبض صلى الله عليه وسلم·(22)
وفي هذه الأحاديث ما يشعر بجد النبي وصحابته في طلب ليلة القدر، وفيه ملمح تربوي، يلفت إلى جدية طلب الخيرات، وعدم اليأس من البحث عن الهدى وتحري الفضائل، وقد يستنتج منها حكم فقهي وهو اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف، وهو مذهب جماهير السلف وأكثر الصحابة، وبه أخذ أبوحنيفة ومالك، وهي الرواية المعتمدة عند المتأخرين من الحنابلة، وهو الصواب الذي نميل إليه(23)·
المصدر:الوعي الإسلامي
ولو شئت أن تعرف الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه، فقد قال نافع مولى ابن عمر: >وقد أراني عبدالله بن عمر المكان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه من المسجد<(11)·
نعم! هذا هو اتباع الأثر، وتعقب السنَّة، واقتفاء السبيل، وهذا هو طريق الهدي وأصل الفلاح·
وهذا المكان تحدده رواية ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء إسطوانة التوبة<(12)· وهذا حديث حسن جداً، قال عنه البوصيري: >هذا إسناد صحيح رجاله موثوقون<(13)· واسطوانة التوبة هي التي تاب عندها أبو لباية ـ وهو رفاعة بن عبدالمنذر ـ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكان حليفاً لبني قريظة، فأشار إليهم بما أفهمهم حكم النبي فيهم، وهو الذبح، فأراد أن يتوب، فانطلق إلى المسجد وربط نفسه باسطوانة من أساطينه بضع عشرة ليلة حتى تاب الله عنه وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم(14)·
وهذه الاسطوانة هي الرابعة من ناحية المنبر، فهي تلي اسطوانة عائشة من جهة المشرق بلا فاصل، وهي الثانية من ناحية القبر، والثالثة من ناحية القبلة، وشرقي هذه الاسطوانة تقع اسطوانة أخرى اسمها >اسطوانة السرير<، ذكر أن سرير النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضع عندها ـ حتى ظن ابن فرحون أن هذه الاسطوانة هي عينها اسطوانة التوبة(15)، لكن يبدو أن السرير كان يوضع بين الاسطوانتين، لأنه كان يوضع >وراء اسطوانة التوبة< يعني أمام الاسطوانة الشرقية، وهذا يجمع بين الاسمين· وقد يكون ما أورده صاحب الذخائر القدسية من أن النبي كان يعتكف وراء اسطوانة التوبة من ناحية القبلة يساعد على هذا الجمع بين التسميات(16)·
الخباء والخلوة الصحيحة
ومعروف من خلال كتب الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف ضرب له خباء، وهو قبة تشبه الخيمة، وهذا أعون على الخلوة، والانصراف إلى الله، والانقطاع عن الشواغل الخارجية، وفي هذا تمام السكينة بمناجاة الحق سبحانه، ونستعير من الإمام ابن القيم هذه الكلمات التي يتحدث فيهن عن خلوة المعتكف بأن الله تعالى: >··· شرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده، وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه ـ بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليها بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره، والفكرة في تحصيل مراضيه··· فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق··· فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم<(17)·
ويقول القرطبي في المفهم: >في قبة تركية: هي قبة صغيرة من لبد<(18)·
ولا شك أن اختيار الخوص والحصير واللباد ـ مع وجود أنواع القماش ـ يوحي بالتقشف والتقلل من المتاع، وهذا مناسب للخلوة بالجليل سبحانه·
فأما خباء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يتخذه فهو >قبة تركية على سدتها قطعة حصير< على حد تعبير أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صحيح ابن خزيمة(19)، ويفسر لنا الرواة ذلك بأنها قبة خوص بابها من حصير<(20)·
وقت اعتكافه صلى الله عليه وسلم
أما عن زمان اعتكافه صلى الله عليه وسلم فالثابت الذي لا ريب فيه ولا اختلاف أنه اعتكف في رمضان، وأنه قضى الاعتكاف مرة في شوال، وكذلك الثابت أن آخر الأمر هو اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان، وهو المستفاد من حديث عائشة الآنف، >أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى<·
إلا أن الأمر الذي تتداوله الرواة هو أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف أولاً في العشر الأوائل، ثم في العشر الأوسط، يدل على ذلك حديث أبي سعيد عند ابن خزيمة والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر والأوسط ـ وذلك التماساً لليلة القدر ـ فلما أوحى إليه أنها في العشر الأواخر مكث العشر الأواخر، ثم ظل على اعتكاف هؤلاء العشر حتى توفاه الله<(21)، ومثل هذا روي عن أم سلمة عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتكف أول سنة العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: >إني رأيت ليلة القدر فيها فأنسيتها<· فلم يزل يعتكف فيهن حتى قبض صلى الله عليه وسلم·(22)
وفي هذه الأحاديث ما يشعر بجد النبي وصحابته في طلب ليلة القدر، وفيه ملمح تربوي، يلفت إلى جدية طلب الخيرات، وعدم اليأس من البحث عن الهدى وتحري الفضائل، وقد يستنتج منها حكم فقهي وهو اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف، وهو مذهب جماهير السلف وأكثر الصحابة، وبه أخذ أبوحنيفة ومالك، وهي الرواية المعتمدة عند المتأخرين من الحنابلة، وهو الصواب الذي نميل إليه(23)·
المصدر:الوعي الإسلامي