السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن مسألة التداوي و التطبيب بالمحرم من جهة شربه أو أكله أو الانتفاع به مسألة أسالت حبرا كثير بين مجوز و مانع – أي بالإطلاق– و بين مجوز بتقييد و مانع بشروط.
و نحن في خضم هذه العجالة سنحاول و بتوفيق من الله جل و علا تسليط الضوء عليها مبرزين أهم الأدلة المدللة على ذلك و الترجيح بينها بدراسة متأنية لا إفراط فيها و لا تفريط فنقول بإذن الله جل و علا:
أ/ أدلة تحريم التداوي بالمسكرات: إن رأس القضية و سنام المسألة في الأدلة هو حديث نهيه صلى الله عليه و سلم عن التداوي بالخمر و الذي نعرضه فيما يلي:
1- ما روي عن وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء فقال ” إنه ليس بدواء و لكنه داء ” صحيح مسلم.
2- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” إن الله أنزل الداء و الدواء و جعل لكل داء دواء فتداووا و لا تتداووا بحرام ” سنن أبي داود.
3- ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ” إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ” رواه البخاري.
4- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ” نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم – عن الدواء الخبيث – يعني السم ” رواه مسلم.
قلت: فالظاهر الذي يبدو من هذه الأحاديث أن التداوي بالمحرم لا يجوز و هو هنا الخمر و لما كان الجامع بين الخمر و الكحول علة الإسكار قال بعض أهل العلم لا يجوز التداوي قياسا للكحول على الخمر و دلالة على ذلك قال الشيخ الإمام العلامة الألباني طيب الله ثراه جوابا عن سؤال حول حكم استخدام المعقمات التي تحتوي على الكحول فأجاب ” إذا كان المقصود بالمعقمات ما كان فيه الكحول فلا يجوز بيعه و لا شراؤه لنهيه صلى الله عليه و سلم عن بيع و شراء الخمر و إذا كانت الكحول هي أم الخمر و كانت الخمر أم الخبائث فالكحول هي أم الخبائث.
و لذلك فلا يجوز استنباط و لا استخراج الكحول و لا بيعها و لا شراؤها مهما كانت الدعوى التي يبرر بها استنباطها و بيعها و شراؤها و على من يزعم أن فيها فائدة أن يبحث عن البديل لأن الله عز و جل ما خلق شيئا محرما إلا و خلق ما يقابله من الحلال ” أ. هـ الفتاوى الإماراتية ص 142 / 143.
ب/ أدلة المانعين: الذي نستخلصه من كلام الشيخ رحمه الله أن الكحول خمر خالصة لا يجوز التداوي بها و دليله في ذلك:
1/ الكحول خمر مسكر كالخمر العادي – علة القياس – المحرم استعماله.
2/ أن الله ما خلق شيئا محرما إلا و خلق البديل عنه في الاستعمال الحلال و هذا لحديث إنزال الداء و الدواء.
3/ إذا كانت الكحول كالخمر فإنه لا يجوز بيعها و لا شراؤها.
ج/ مناقشة هذه الأدلة: أما الأخذ و الرد في المسألة فيمكن من خلال المناقشة فإنه يمكن لنا عرضه من خلال ما يلي:
1/ صحيح أن الكحول مسكرة مثل الخمر العادي بجامع علة الإسكار و لكن هذه العلة في مسألتنا هذه لا محل لها لأننا نناقش مسألة استعمال الكحول في الجروحات و القروحات كتنظيف من غير الشرب الذي هو طريق إلى تحقيق علة الإسكار و إنما العلة التي يمكن لنا أن نستدل بها هنا في قياس الخمر على الكحول هي علة زائدة عن العلة المذكورة أو تأتي بعدها إن شئت و هي ” تحريم التداوي بالمحرم ” أي أن كل مسكر ألحق بالخمر في علة تحريم الشرب للإسكار منع التداوي به و هذه المسألة لها بسط آخر و أدلة أخرى من وجهة نظر أخرى تأتي في مكان آخر.
2/ أما قول الشيخ رحمه الله في الاستدلال الثاني بأن الله ما خلق محرما إلا و خلق ما يقابله من الحلال المبيح فيحتج عليه بحديث الصحابيين اللذين أجاز لهما النبي صلى الله عليه و سلم التداوي لأحدهما بالحرير من حكة كانت به و الآخر بالذهب الذي اتخذه كأنه أنف مكان أنفه المبتور و كلاهما محرم على ذكور أمته صلى الله عليه و سلم و لو كان الأمر كما قال الشيخ رحمه الله لقال لهما انتظرا حتى ينزل الله الداء فإنه ما خلق داء إلا و جعل له دواء و لم يرخص لهما في التداوي بالمحرم.
- صحيح أننا إذا قلنا بأن الكحول مثل الخمر محرمة لإسكارها لا يجوز بيعها و لا شراؤها و لا المتاجرة فيها – و إن كانت هذه ليست مسألتنا – إلا أن هذا لا يمنع بيعها إذا أنزلت منزلة الضرورة و كذا التحرز في مدها و إعطائها و بالتالي تقع المسؤولية على البائع و المشتري لا على المادة في حد ذاتها و إلا لحرم أيضا بيع الحبوب المهلوسة و المخدرة و حتى حبوب منع الحمل بالنظر إلى استعمالهم في غير المشروع شرعا و قانونا بل قد تكون في بعض الحالات أعظم من بيع الكحول بالنظر إلى الآثار إذ أن آثار الحبوب المهلوسة و المخدرة و منع الحمل أخطر و أكبر من الكحول.
د/ أدلة المبيحين للتداوي بالكحول في حالة الضرورة:
- إن الظاهر من الأحاديث التي استدل بها المانعين من استعمال الكحول و لو تطبيبا يفهم منه ما ذهبوا إليه و لكن إذا جمعناها مع بعض الأحاديث الأخرى القاضية بجواز التداوي بالمحرم استبان لنا أن النهي في هذه الأحاديث يحمل على الضرورة و ذلك من خلال ما يلي:
1/ حديث عبد الرحمن بن عوف و الزبير بن العوام رضي الله عنهما أنهما شكيا إلى النبي صلى الله عليه و سلم من حكة كانت بهما فرخص لهما في لبس الحرير و الحديث أخرجه مسلم. ففي الحديث جواز التداوي بالمحرم و هو لبس الحرير للرجال خاصة إذا علمنا أن علة التحريم في التداوي بالكحول هي الإسكار فنقول كذلك هي علة تحريم الحرير على الرجال لما يورث في نفس الرجل من أمراض خبيثة و عقد نفسية كالشذوذ الجنسي و التخنث و اللواط و غيرها و لهذا كان لابسه لا خلاق له كما جاء في الحديث.
و يلحق به حديث الصحابي الذي أجاز له النبي صلى الله عليه و سلم أن يتخذ أنفا من ذهب بعد أنتن الأنف الذي أتخذه من غير النحاس و معلوم أن الذهب محرم على الرجال لبسه كما أن المسكر محرم عليهم شربه و هذه كلها قرائن تصرف ظاهر الأحاديث التي استدل بها القوم على تحريم التداوي بالمحرم من الحالة العادية إلى الحالة الضرورية و إلا فما موقع لابس الحرير و متخذ أنف الذهب من قوله صلى الله عليه و سلم ” إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ” و حديث ” لا تتداووا بحرام ” و كلاهما حرام على الرجال و هذا هو عين الجمع.
على أن لا يقال أن حديث رخصة الحرير و الذهب هي حادثة عين أو خاصة بهذين الصحابيين رضي الله عنهما من دون غيرهما و بالتالي فإنه ليس تشريع لمن دونهما فهذه دعوى تحتاج إلى دليل و ذلك لأن العام يبقى على عمومه حتى تأتي القرينة التي تخصصه و لا قرينة هنا لا من قريب و لا من بعيد.
2/ عملا بالقاعدة التي تقول ” الضرورات تبيح المحظورات ” فإنه يجوز استعمال الكحول المسكر في التطبيب و التداوي إذا لم يوجد منظف يقوم مقامه أو بديل عنه على أن تقدر هذه الضرورة بقدرها.
- إن القول بتحريم استعمال الكحول للتداوي لعلة الإسكار ينبني عليه تحريم استعمال بعض الأدوية و المستحضرات الطبية لعلة النجاسة كما هو الحال بالنسبة للبنسلين و الذي يستخلص من العفن و الفطريات المتعفنة و هذا ما لا يقول به الفريق الخصم في المسألة و لا يقال ” إن هذه النجاسة قد استحالت – بمعنى تحولت عن طبيعتها الأصلية النجسة – ” لأن هناك من المستحضرات التي تستعمل حتى و إن لم تستحيل كما هو الشأن بالنسبة لخيوط الجراحة الطبية و المستخلصة من القطط و غيرها.
3/ إن المفهوم من نهيه صلى الله عليه و سلم عن اتخاذ الخمر دواء هو حال ما اتخذت شربا لا استعمالا لأن علة التحريم هنا منتفية ألا و هي السكر و الحكم يدور مع علته وجودا و عدما و لا يقال إن النهي في الأحاديث عام فكيف خصصتها بالاستعمال من دون الشرب ؟؟ – بمعنى آخر أين القرينة المستثنية للاستعمال من دون العموم – أقول إن القرينة الصارفة لذلك و هي أن المشهور في عرف و عادات القوم آنذاك هو استعمال الخمر شربا لا استعمالا كما نفعل نحن لأنها لم يتفطن لها بعد أن الخمر تداوي الجروح و معلوم أن الخمر لا استعمال لها في التطبيب إلا من جهتين و هما جهة الشرب أو الاستعمال الخارجي فإذا استثنينا الجهة الثانية بعارض الجهل بقية الجهة الأولى و هي التي يسقط عليها التحريم في الأحاديث.
4/ إن أحاديث النهي عن التداوي بالمحرم عامة كما هو الظاهر من ألفاظ الروايات يخصصها أحاديث جواز التداوي بالمحرم ألا و هي الحرير و الذهب للرجال و بالتالي يحمل هذا الخاص على الضرورة و يبقى الأول على عمومه و هو في حالة عدم الضرورة و الجمع بين الدليلين أولى من طرح احدهما كما هو متعارف عليه بين أهل العلم.
5/ لا يمكن القول بنسخ الحظر للإباحة لأن إجازة الحرير و الذهب للرجال كان في الغزوات و هي متأخرة عن تحريم الخمر.
6/ قال الشيخ الألباني رحمه الله تحت حديث الخمر ” إنه ليس بدواء و لكنه داء ” فقال ” فهذا كما ترى خاص بالخمر فلا يجوز تعديته إلى سائر الأدوية المحرمة كالبنج مثلا ” أهـ. نقد نصوص حديثية ص 50.
فالسؤال الذي يطرح هنا: إذا كان الحديث خاص بالخمر فلماذا عداه الشيخ رحمه الله إلى تحريم التداوي بالكحول ؟ فإن قلنا بأن الخمر يلتقي مع الكحول في علة الإسكار و هذه العلة لا تلتقي مع علة التخدير في البنج ؟
قلنا: إن كلا من الخمر و الكحول و البنج يلتقون في علة عامة واحدة و هي التحريم للضرر الناجم عنهم و هذا بعلة خصوصية كل نوع على حدا أي الإسكار و التخدير و تأثيرهما على العقل محل التكليف و علة التحريم للضرر أقرب و أقوى إلى لفظ الحديث الآخر أعني ” أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ” فالعلة العامة إذا للجمع بين هذه الثلاثة في القياس هي التحريم للضرر و عليه فلا وجه لخصوصية الحديث و استثناء البنج منه و طريق الجمع ليس إلا بالقول بالاستثناء في حالة الضرورة.
- إن العلماء قد أجمعوا على أن المضطر في حالة ما إذا لم يتبع الرخصة و هلك فإنه يعتبر من الذين قتلوا أنفسهم و يمثلون لهذا عادة بفاقد الماء في الصحراء إذا لم يجد إلا جرة خمر فأجازوا له الشرب منه من باب الضرورة أفلا يجوز حينذاك أن نقول بجواز استعمال الكحول للمضطر كالجريح و المريض و من به جرح أو قرح و غيرهم من باب الضرورة إذا لم يجد مطهر غيره.
- الراجح في المسألة:
بعدما استقصينا المسألة من كل جوانبها و عرضنا لأدلة الفريقين بالحجج و الأدلة و كذا الرد عليها فإن الراجح في المسألة و الله أعلم قول من قال أن الكحول جائز استعماله في حالة الضرورة و هذه الأخيرة تقدر بقدرها و ذلك لقوة أدلتهم و صحة توجيهاتهم لها و عليه فإن استعمال الكحول في التطبيب و التداوي جائز من باب رخصة الضرورة لا غير فعلى الإنسان أن يجتهد أولا في البحث إما على كحول خالي عن علة الإسكار و إما على بديل يقوم مقام الكحول فإن لم يجد لا هذه و لا تلك أسقط عليه حكم الضرورة و ما عليه سوى أن يستعمله و ليتقي ربه.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
منقول
إن مسألة التداوي و التطبيب بالمحرم من جهة شربه أو أكله أو الانتفاع به مسألة أسالت حبرا كثير بين مجوز و مانع – أي بالإطلاق– و بين مجوز بتقييد و مانع بشروط.
و نحن في خضم هذه العجالة سنحاول و بتوفيق من الله جل و علا تسليط الضوء عليها مبرزين أهم الأدلة المدللة على ذلك و الترجيح بينها بدراسة متأنية لا إفراط فيها و لا تفريط فنقول بإذن الله جل و علا:
أ/ أدلة تحريم التداوي بالمسكرات: إن رأس القضية و سنام المسألة في الأدلة هو حديث نهيه صلى الله عليه و سلم عن التداوي بالخمر و الذي نعرضه فيما يلي:
1- ما روي عن وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء فقال ” إنه ليس بدواء و لكنه داء ” صحيح مسلم.
2- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” إن الله أنزل الداء و الدواء و جعل لكل داء دواء فتداووا و لا تتداووا بحرام ” سنن أبي داود.
3- ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ” إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ” رواه البخاري.
4- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ” نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم – عن الدواء الخبيث – يعني السم ” رواه مسلم.
قلت: فالظاهر الذي يبدو من هذه الأحاديث أن التداوي بالمحرم لا يجوز و هو هنا الخمر و لما كان الجامع بين الخمر و الكحول علة الإسكار قال بعض أهل العلم لا يجوز التداوي قياسا للكحول على الخمر و دلالة على ذلك قال الشيخ الإمام العلامة الألباني طيب الله ثراه جوابا عن سؤال حول حكم استخدام المعقمات التي تحتوي على الكحول فأجاب ” إذا كان المقصود بالمعقمات ما كان فيه الكحول فلا يجوز بيعه و لا شراؤه لنهيه صلى الله عليه و سلم عن بيع و شراء الخمر و إذا كانت الكحول هي أم الخمر و كانت الخمر أم الخبائث فالكحول هي أم الخبائث.
و لذلك فلا يجوز استنباط و لا استخراج الكحول و لا بيعها و لا شراؤها مهما كانت الدعوى التي يبرر بها استنباطها و بيعها و شراؤها و على من يزعم أن فيها فائدة أن يبحث عن البديل لأن الله عز و جل ما خلق شيئا محرما إلا و خلق ما يقابله من الحلال ” أ. هـ الفتاوى الإماراتية ص 142 / 143.
ب/ أدلة المانعين: الذي نستخلصه من كلام الشيخ رحمه الله أن الكحول خمر خالصة لا يجوز التداوي بها و دليله في ذلك:
1/ الكحول خمر مسكر كالخمر العادي – علة القياس – المحرم استعماله.
2/ أن الله ما خلق شيئا محرما إلا و خلق البديل عنه في الاستعمال الحلال و هذا لحديث إنزال الداء و الدواء.
3/ إذا كانت الكحول كالخمر فإنه لا يجوز بيعها و لا شراؤها.
ج/ مناقشة هذه الأدلة: أما الأخذ و الرد في المسألة فيمكن من خلال المناقشة فإنه يمكن لنا عرضه من خلال ما يلي:
1/ صحيح أن الكحول مسكرة مثل الخمر العادي بجامع علة الإسكار و لكن هذه العلة في مسألتنا هذه لا محل لها لأننا نناقش مسألة استعمال الكحول في الجروحات و القروحات كتنظيف من غير الشرب الذي هو طريق إلى تحقيق علة الإسكار و إنما العلة التي يمكن لنا أن نستدل بها هنا في قياس الخمر على الكحول هي علة زائدة عن العلة المذكورة أو تأتي بعدها إن شئت و هي ” تحريم التداوي بالمحرم ” أي أن كل مسكر ألحق بالخمر في علة تحريم الشرب للإسكار منع التداوي به و هذه المسألة لها بسط آخر و أدلة أخرى من وجهة نظر أخرى تأتي في مكان آخر.
2/ أما قول الشيخ رحمه الله في الاستدلال الثاني بأن الله ما خلق محرما إلا و خلق ما يقابله من الحلال المبيح فيحتج عليه بحديث الصحابيين اللذين أجاز لهما النبي صلى الله عليه و سلم التداوي لأحدهما بالحرير من حكة كانت به و الآخر بالذهب الذي اتخذه كأنه أنف مكان أنفه المبتور و كلاهما محرم على ذكور أمته صلى الله عليه و سلم و لو كان الأمر كما قال الشيخ رحمه الله لقال لهما انتظرا حتى ينزل الله الداء فإنه ما خلق داء إلا و جعل له دواء و لم يرخص لهما في التداوي بالمحرم.
- صحيح أننا إذا قلنا بأن الكحول مثل الخمر محرمة لإسكارها لا يجوز بيعها و لا شراؤها و لا المتاجرة فيها – و إن كانت هذه ليست مسألتنا – إلا أن هذا لا يمنع بيعها إذا أنزلت منزلة الضرورة و كذا التحرز في مدها و إعطائها و بالتالي تقع المسؤولية على البائع و المشتري لا على المادة في حد ذاتها و إلا لحرم أيضا بيع الحبوب المهلوسة و المخدرة و حتى حبوب منع الحمل بالنظر إلى استعمالهم في غير المشروع شرعا و قانونا بل قد تكون في بعض الحالات أعظم من بيع الكحول بالنظر إلى الآثار إذ أن آثار الحبوب المهلوسة و المخدرة و منع الحمل أخطر و أكبر من الكحول.
د/ أدلة المبيحين للتداوي بالكحول في حالة الضرورة:
- إن الظاهر من الأحاديث التي استدل بها المانعين من استعمال الكحول و لو تطبيبا يفهم منه ما ذهبوا إليه و لكن إذا جمعناها مع بعض الأحاديث الأخرى القاضية بجواز التداوي بالمحرم استبان لنا أن النهي في هذه الأحاديث يحمل على الضرورة و ذلك من خلال ما يلي:
1/ حديث عبد الرحمن بن عوف و الزبير بن العوام رضي الله عنهما أنهما شكيا إلى النبي صلى الله عليه و سلم من حكة كانت بهما فرخص لهما في لبس الحرير و الحديث أخرجه مسلم. ففي الحديث جواز التداوي بالمحرم و هو لبس الحرير للرجال خاصة إذا علمنا أن علة التحريم في التداوي بالكحول هي الإسكار فنقول كذلك هي علة تحريم الحرير على الرجال لما يورث في نفس الرجل من أمراض خبيثة و عقد نفسية كالشذوذ الجنسي و التخنث و اللواط و غيرها و لهذا كان لابسه لا خلاق له كما جاء في الحديث.
و يلحق به حديث الصحابي الذي أجاز له النبي صلى الله عليه و سلم أن يتخذ أنفا من ذهب بعد أنتن الأنف الذي أتخذه من غير النحاس و معلوم أن الذهب محرم على الرجال لبسه كما أن المسكر محرم عليهم شربه و هذه كلها قرائن تصرف ظاهر الأحاديث التي استدل بها القوم على تحريم التداوي بالمحرم من الحالة العادية إلى الحالة الضرورية و إلا فما موقع لابس الحرير و متخذ أنف الذهب من قوله صلى الله عليه و سلم ” إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ” و حديث ” لا تتداووا بحرام ” و كلاهما حرام على الرجال و هذا هو عين الجمع.
على أن لا يقال أن حديث رخصة الحرير و الذهب هي حادثة عين أو خاصة بهذين الصحابيين رضي الله عنهما من دون غيرهما و بالتالي فإنه ليس تشريع لمن دونهما فهذه دعوى تحتاج إلى دليل و ذلك لأن العام يبقى على عمومه حتى تأتي القرينة التي تخصصه و لا قرينة هنا لا من قريب و لا من بعيد.
2/ عملا بالقاعدة التي تقول ” الضرورات تبيح المحظورات ” فإنه يجوز استعمال الكحول المسكر في التطبيب و التداوي إذا لم يوجد منظف يقوم مقامه أو بديل عنه على أن تقدر هذه الضرورة بقدرها.
- إن القول بتحريم استعمال الكحول للتداوي لعلة الإسكار ينبني عليه تحريم استعمال بعض الأدوية و المستحضرات الطبية لعلة النجاسة كما هو الحال بالنسبة للبنسلين و الذي يستخلص من العفن و الفطريات المتعفنة و هذا ما لا يقول به الفريق الخصم في المسألة و لا يقال ” إن هذه النجاسة قد استحالت – بمعنى تحولت عن طبيعتها الأصلية النجسة – ” لأن هناك من المستحضرات التي تستعمل حتى و إن لم تستحيل كما هو الشأن بالنسبة لخيوط الجراحة الطبية و المستخلصة من القطط و غيرها.
3/ إن المفهوم من نهيه صلى الله عليه و سلم عن اتخاذ الخمر دواء هو حال ما اتخذت شربا لا استعمالا لأن علة التحريم هنا منتفية ألا و هي السكر و الحكم يدور مع علته وجودا و عدما و لا يقال إن النهي في الأحاديث عام فكيف خصصتها بالاستعمال من دون الشرب ؟؟ – بمعنى آخر أين القرينة المستثنية للاستعمال من دون العموم – أقول إن القرينة الصارفة لذلك و هي أن المشهور في عرف و عادات القوم آنذاك هو استعمال الخمر شربا لا استعمالا كما نفعل نحن لأنها لم يتفطن لها بعد أن الخمر تداوي الجروح و معلوم أن الخمر لا استعمال لها في التطبيب إلا من جهتين و هما جهة الشرب أو الاستعمال الخارجي فإذا استثنينا الجهة الثانية بعارض الجهل بقية الجهة الأولى و هي التي يسقط عليها التحريم في الأحاديث.
4/ إن أحاديث النهي عن التداوي بالمحرم عامة كما هو الظاهر من ألفاظ الروايات يخصصها أحاديث جواز التداوي بالمحرم ألا و هي الحرير و الذهب للرجال و بالتالي يحمل هذا الخاص على الضرورة و يبقى الأول على عمومه و هو في حالة عدم الضرورة و الجمع بين الدليلين أولى من طرح احدهما كما هو متعارف عليه بين أهل العلم.
5/ لا يمكن القول بنسخ الحظر للإباحة لأن إجازة الحرير و الذهب للرجال كان في الغزوات و هي متأخرة عن تحريم الخمر.
6/ قال الشيخ الألباني رحمه الله تحت حديث الخمر ” إنه ليس بدواء و لكنه داء ” فقال ” فهذا كما ترى خاص بالخمر فلا يجوز تعديته إلى سائر الأدوية المحرمة كالبنج مثلا ” أهـ. نقد نصوص حديثية ص 50.
فالسؤال الذي يطرح هنا: إذا كان الحديث خاص بالخمر فلماذا عداه الشيخ رحمه الله إلى تحريم التداوي بالكحول ؟ فإن قلنا بأن الخمر يلتقي مع الكحول في علة الإسكار و هذه العلة لا تلتقي مع علة التخدير في البنج ؟
قلنا: إن كلا من الخمر و الكحول و البنج يلتقون في علة عامة واحدة و هي التحريم للضرر الناجم عنهم و هذا بعلة خصوصية كل نوع على حدا أي الإسكار و التخدير و تأثيرهما على العقل محل التكليف و علة التحريم للضرر أقرب و أقوى إلى لفظ الحديث الآخر أعني ” أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ” فالعلة العامة إذا للجمع بين هذه الثلاثة في القياس هي التحريم للضرر و عليه فلا وجه لخصوصية الحديث و استثناء البنج منه و طريق الجمع ليس إلا بالقول بالاستثناء في حالة الضرورة.
- إن العلماء قد أجمعوا على أن المضطر في حالة ما إذا لم يتبع الرخصة و هلك فإنه يعتبر من الذين قتلوا أنفسهم و يمثلون لهذا عادة بفاقد الماء في الصحراء إذا لم يجد إلا جرة خمر فأجازوا له الشرب منه من باب الضرورة أفلا يجوز حينذاك أن نقول بجواز استعمال الكحول للمضطر كالجريح و المريض و من به جرح أو قرح و غيرهم من باب الضرورة إذا لم يجد مطهر غيره.
- الراجح في المسألة:
بعدما استقصينا المسألة من كل جوانبها و عرضنا لأدلة الفريقين بالحجج و الأدلة و كذا الرد عليها فإن الراجح في المسألة و الله أعلم قول من قال أن الكحول جائز استعماله في حالة الضرورة و هذه الأخيرة تقدر بقدرها و ذلك لقوة أدلتهم و صحة توجيهاتهم لها و عليه فإن استعمال الكحول في التطبيب و التداوي جائز من باب رخصة الضرورة لا غير فعلى الإنسان أن يجتهد أولا في البحث إما على كحول خالي عن علة الإسكار و إما على بديل يقوم مقام الكحول فإن لم يجد لا هذه و لا تلك أسقط عليه حكم الضرورة و ما عليه سوى أن يستعمله و ليتقي ربه.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
منقول