إن الأسرة لم تفقد وظائفها القديمة مرة واحدة بل كان ذلك على عدة مراحل وبشكل تدريجي وأن هذا الفقدان لم يتم على صورة واحدة في جميع الشعوب، بل اختلفت أشكاله وأدواره باختلاف الأمم والمجتمعات.. والسؤال الآن ... هو.... هل ستبقى الأسرة ؟ وإلى أي مدى في ظل هذا الفقدان لوجودها ووظائفها ؟ ما تأثير العولمة على الأسرة كيانا وبناء ومستقبلا؟.
وقبل أن نجيب على هذا السؤال علينا أن ندرك أولا حجم المعوقات التي تقف حائلا أمام وجود الأسرة :
لقد ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من العوامل المؤثرة في وجود الأسرة وقيامها بدورها ووظيفتها بعض هذه العوامل مرتبط بتطور النهضة الصناعية وضغوط الحياة المعاصرة وبعضها مرتبط بانتشار الفساد والاختلاط وإباحية الزنا خصوصا في المجتمعات الغربية والتي انتقلت بالتقليد إلى المجتمعات التي كانت محافظة أو شبه محافظة، ساعد على ذلك بلا شك المؤتمرات الدولية والندوات والنقاشات التي تقرر قراراتها وتفرضها عن طريق قوة مسيطرة لديها من الإمكانيات المادية ما يجعل هذه القرارات التي تأخذ غالبا في البداية شكل توصيات لها قوة النفاذ، وبعضها مرتبط بالإعلام وتأثيره واستخدامه للجنس عاملا من عوامل الدعاية والتسويق.
فالحياة الحضرية وما صاحبها من تطور في مهام الإنسان والضغوط المحيطة به والتي أدت إلى خروج المرأة للعمل وحرصها عليه وإعطاء عملها خارج المنزل أولوية على عملها داخله وما يتبع ذلك من يمل إلى الفردية وعدم الإحساس بالمسئولية إلا عن النفس كل ذلك أدى على - في بداية الأمر- انخفاض عدد أفراد الأسرة وفي مرحلة تالية أدى إلى ضعف الاهتمام بالرغبة في تكوين أسرة أو الانتماء إليها. ففي ظل الحرية الفردية يرغب الفرد في الاستقلال بنفسه والعناية بها وليس بشيء غيرها. ويذكر أن موسوليني الذي حكم إيطاليا حوالي 20سنة حتى عام 1943م فرض عقوبات صارمة على من يستخدم موانع للحمل وكان يمنح جوائز ومعونات للمرأة التي تلد عدة أطفال" لكن إيطاليا اليوم كما تقول الإحصائيات مهددة بالانقراض ويتوقع خبراء الإسكان بأنه خلال مائة عام سيهبط عدد السكان فيها من 57 مليون إلى 19 مليون نسمة فقط وتعزو الدراسات هذا الانخفاض إلى ارتفاع عدد النساء العاملات في إيطاليا (37% من إجمالي قوة العمل) وارتفاع تكاليف دور الحضانة وتجاوزها لإمكانيات كثير من الأسر كما أن الخوف من الفصل من يشكل سببا جوهريا لإعراض كثير من النساء عن الحمل.
وإذا كان قانون الأمومة هناك ينص على منح المرأة أجازة وضع لا تقل عن خمسة أشهر ويمكنها الحصول على 80% من واتبها لورغبت في الحصول على مدة أطول لرعاية وليدها إلا أن شركات كثيرة تتحايل على هذا القانون وتفصل كثيرا من النساء بسبب حملهن، وهكذا تتكالب الاسباب المادية والضغوط الحياتية إلى حرمان المرأة من حقها في الأمومة وتكوين أسرة لكن السفينة عندما تغرق سوف يغرق الجميع لا المرأة فحسب .
حينما سئل أحد المسؤولين في دولة عربية لماذا لم يتزوج حتى الآن وقد بلغ من العمر عتيا ؟ قال : "لأن الزواج يربطني بامرأة واحدة فقط" هذه هي إجابة أحد مسئولي التوجيه في دولة عربية مسلمة، كيف تسممت أفكار هذا المسئول بهذه الآراء الجهنمية؟. وما تأثيره المباشر وغير المباشر على الرأي العام الذي هو أحد مسئولي التشكيل فيه؟ . إنه الفساد والانحلال والاختلاط، وما الذي يربطه بامرأة واحدة، وهو يستطيع أن يستمتع بالعشرات من النساء من غير التزامات مادية أو مسئوليات مستقبلية ؟ إنه الفساد والانحلال والاختلاظ .. الجدير بالذكر أن شيوع الاختلاط وإباحية الزنا لا يمنع من قيام الاسرة في مستقبها فحسب وإنما تهدد الأسر القائمة أيضا وهي سبب مباشر في انهيار كثير منها، إذ ثبت أن ضياع كثير من الأسر كان يرجع إلى الانحراف الخلقي والخيانة الزوجية سواء من الزوج أو كليهما معا.
• الدور المشبوه للمؤتمرات الدولية وتحت ستار العولمة :
ما يؤكد قوة التحديات التي تواجه الأسرة وتهدد وجودها وتنذر بأخطر العواقب أنه في عام واحد أو أقل من عام تم عقد مؤتمرين كبيرين ضما تقريبا كافة دول العالم الأول كان في القاهرة والثاني كان في بكين وقد عقد الأول تحت عنوان "المؤتمر الدولي للسكان والتنمية" والثاني تحت عنوان "مؤتمر المرأة" ويبدو للوهلة الأولى أن هذه المؤتمرات ترفع قضية التنمية وتربطها بالنمو السكاني الرشيد ثم تهتم بالمرأة من حيث تعليمها واحترامها وتثقيفها وإعدادها للقيام بدورها ومسئولياتها لكن المتابع لمثل هذه المؤتمرات يدرك من غير صعوبة أن الثقافة والحضارة الغربية التي غرقت حتى آذانها في الطين تريد بألياتها وأدواتها أن تهيمن على العالم والكون فتفرض عليه ثقافتها ورؤاها للكون والحياة تحت ما يسمى بوحدة الثقافة الكونية ما جعل سيدة هندية تصرخ بأعلى صوتها في قاعات مؤتمر القاهرة وتقول "هذا مؤتمر لا نسمع إلا عن الإجهاض وتحديد النسل والصحة الجنسية .. أولادنا جائعون لا يشربون مياها نظيفة ولا يذهبون إلى مدارس" ويفتقدون إلى الحد الأدنى من الرعاية الصحية، ولا يتحدث أحد في هذه الأمور" إنه مؤتمر تحديد النسل فقط ولا علاقة له بالتنمية" تلك هي رسالة المؤتمرات المشبوهة التي أدمن الغرب على إعدادها والتجهيز لها.
إباحة الإجهاض. وتحديد النسل وتفكيك الأسرة .. وهدم القيم الإيمانية في النفوس من بعد ذلك .
في أمريكا تغتصب امرأة كل ست دقائق، وأكثر من 50% من الأمهات المراهقات يلدن من غير علاقة زوجية، ونسبة العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج يفوق أي تصور ممكن، هم يريدون الدنيا كلها كذلك، لقد غرقوا في الوحل ويريدون أن يغرق الناجون كذلك. كل ذلك من خلال مؤتمرات مشبوهة يديرها شواذ ومنحرفون بل ومجرمون، في حق الإنسانية، وقد ظهر هذا بجلاء داخل أروقة "مؤتمر المرأة" في بكين الذي عقد في سبتمبر 1995م "حيث بدا تحكم" منظمة النساء للبيئة والتنمية" التي ترأسها سيدة الكونجرس السابقة "بيللا أبزوج" زعيمة التسويات النوعيات "الشاذات" في صياغة أهداف المؤتمر وطريقة إدارة جلساته وتمرير القرارات بالإجماع دون موافقة الدول عليها، ومن ثم تمرير أجندة "النسويات النوعيات" رغما عن أنف الدول الأعضاء والمنظمات غير الحكومية الأخرى المشتركة في المؤتمر وبدا أنه قد تحول من اجتماع دولي ينادي بمطالبة المرأة بحقوقها الفطرية التي منحها الإسلام إياها لو تم تطبيقه مثل حقها كزوجة أو حقها في التعليم أو العمل المعني والقضاء علي أميتها وفقرها إلى مؤتمر للشذوذ الجنسي، وقد ظهرت منظمة الأمم المتحدة للعالم بوجهها الجديد كمنظمة تعقد المؤتمرات الدولية للمناداة بالشذوذ.
إن الأهداف المعلنة لهذه المؤتمرات الحفاظ على المرأة وحماية الأسرة والاهتمام لكن المنقب عن أهدافها يصل إلى أنها تهدف إلى نقل الثقافة الغربية وتعميمها في أرجاء المعمورة بما في ذلك إشاعة الفاحشة وإثارة الشهوات الحيوانية للإنسان من خلال قوانين وخطط ثبت خطؤها الشرعي والعملي . وحينما ننظر إلى أحد أهدافها المعلنة وهو تنظيم النسل أو تحديده ونضعه تحت المجهر نجد زيادة أعداد البشر وتكثير النسل ليست مصيبة كما يصور لنا المؤتمرون، ففي كتابه المسمى "حركة تحديد النسل" يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله "لقد كان عدد السكان في ألمانيا 45 مليون سنة 1880 وكانوا في تلك الأيام يعانون معيشة ضنكا وضائقة مالية شديدة حتى كان الآلاف منهم يهاجرون إلى الخارج بين عام وآخر ولكن لما بلغ عددهم 68 مليون في 34 سنة بعد ذلك فبدل أن تصاب ألمانيا في وضعها الاقتصادي تضاعفت وسائلها للمعيشة ومواردها للرزق عدة مئات من المرات على نسبة زيادة سكانها حتى اضطرت إلى طلب العمال من الخارج لتسيير حياتها الاقتصادية فقد بلغ عدد الأجانب في ألمانيا 800 ألف عامل سنة 1900 وحوالي مليون و300ألف في 1910م. وهولندا ... ما كان عدد سكانها في القرن الثامن عشر يتجاوز المليون ولكنه بدأ بتقدم بعد ذلك حتى جاوز 10 مليون عام 1950م وهذا العدد الكبير لا يسكن إلا في رقعة مساحتها 12ألف و850 ميلا مربعا حيث لا يخص الواحد من السكان سوى هكتار واحد من الأرض الزراعية وهم لا يجدون كفايتهم من الحاجات الغذائية فحسب.... بل يصدرون كميات فائضة من الموارد الغذائية إلى الخارج وقد وسعوا رقعة الأرض الزراعية عندهم عن طريق "دفع البحر" بلغت مساحتها 200ألف هكتار حتى أنه ما بقيت هناك أي نسبة بين ثروتهم في هذه الأيام وثروتهم قبل مائة وخمسين سنة عندما كان عددهم لا يجاوز المليون.
وقد نشرت جريدة النور الإسلامية في عددها 140 في تقرير لها عن المملكة العربية السعودية ..أنه لما ازداد سكان جزيرة العرب وازداد عدد المهاجرين إليها رغبة في العمل والكسب ارتفعت مساحة الأرض الزراعية من 150ألف هكتار إلى مليونين و300ألف هكتار ما حقق لها الاكتفاء الذاتي خاصة من محصول القمح الذي كان يمثل 99% من نسبة الواردات الغذائية للمملكة، وأضافت الجريدة أن المملكة العربية السعودية حصلت على جائزة التقدير الدولية لما حققته من مشروعات التنمية الزراعية، حدث هذا في دولة صحراوية جبلية لايجري في أرضها نيل ولا فرات ولكن جرى فوق حبات رمالها عرق الإنسان وامتدت في بطن أراضيها مواسير الحديد تسحب من تحت طبقات الرمال والصخور كنوز المياه فكست الخضرة سطح الصحراء الصفراء ...ليخرج للعالمين تفسير جديد لقول العزيز الحميد (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف) "سورة قريش"
إن الشعار الذي ترفعه هيئات تنظيم الأسرة "أسرة صغيرة= حياة أفضل" يمكن أن يقابله "أسرةكبيرة= قدرة على الكسب + زيادة تكافل وتعاون" إن كان في أوقات اليسر واجب فهو في أوقات العسر أوجب.
وعلى الرغم من كل هذه المعوقات التي تقف في طريق الأسرة فإن قناعتنا أن الأسرة باقية وستبقى على الرغم من كل ذلك وبالرغم من كافة الهجمات الشرسة والسهام الخبيثة الموجهة إليها، سواء كانت من الداخل أو الخارج لأن عوامل بقاء الأسرة أقوى بكثير من عوامل فنائها ... إنها الفطرة.
والديانات السماوية التي تقف وراء كل فضيلة ومنفعة للإنسان وأهم هذه الديانات هو الإسلام!!!!
• المشكلات التي تواجه الأسرة في ظل العولمة :
هناك أمور تحدق بالأسرة ويمكن إيجازها فيما يلي :
• الفراغ : حذر المفكرون وأهل المعرفة من الفراغ وهذا الخطر في وقتنا الحاضر يعتبر من أخطر الأمور على الأسرة، فقد قيل أن نصف سكان السعودية أعمارهم أقل من 15 سنة وقوة العمل الوطنية 34% ونسبة تعليم الذكور 90% والإناث 94% وهذه النسبة تعتبر نسبة كبيرة جدا ولا بد من الاعتناء بها والحرص على عليها لأن الشباب هم عماد الوطن، وبما أن الجامعات والكليات لا تقبل إلا النسب العالية فإن نسبة كبيرة جدا من الطلاب لا يتاح لهم الدخول والدراسة في التعليم الجامعي مما يولد لدى الكثير منهم فراغا كبيرا قد يحدث لهذا الفرد أمور لا تحمد عقباها إن لم يستغل وقت فراغه. إذن مشكلة وقت الفراغ من أبرز المشكلات المعاصرة التي تواجهة الشباب المسلم وهي من المشكلات التي يجب على المسؤولين في المجتمعات العربية والإسلامية إيجاد حلول لها لأنها تمثل مشكلة الكثير من الأسر وعدم إيجاد الحلول الإيجابية لمشكلات الفراغ بين الأسر تؤدي إلى زيادة الجنوح والجريمة في أواسط الأسر.
* المخدرات : وهي دمار للفرد والأسرة، وهي محاولة لتدمير أهم شريحة في المجتمع ومحاولة تدمير شبابنا ... وقد نقشت هذه الظارهة . وإن لم يتم تداركها ستكون عواقبها وخيمة على شبابنا .
• انشغال الأب والأم : للأب والأمم دور فعال في تنشئة الأطفال إلى أن يصيروا شبابا وعندما يكون هناك تفكك أسري أو أي خلاف فإن الشباب بخاصة وهم في طور رهافة الحس وشدة المشاعر يبدو ذلك واضحا في سلوكهم والذي يتميز في حالة التفكك وعدم الاستقرار الأسري بالانفعالية والقلق الموصل في حالات كثيرة إلى عوامل الضياع والانحراف السلوكي.
• الزواج : تقف متطلبات الزواج وإعداد الأسرة عائقا كبيرا أمام الشباب ومن هذه المتطلبات السكن بصورة خاصة ومن أهم عقبات الزواج ـ الغلاء في المهور المبالغة في تكاليف الزواج.
• البطالة : ترتبط البطالة عادة بانخفاض حاد في دخل الفرد وقد تتولد علاقة اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة بين البطالة والجريمة، فعن طريق الأسرة والظروف السيئة يجنحون إلى الجريمة بسبب سوء الرعاية الصحية وسوء التغذية والانقطاع عن التعليم في سن مبكرة أو الإخفاق فيه(). هذا فضلا عن العوامل النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى آثار سلبية على تكوين شخصية العاطل وسلوكه النفسي والاجتماعي.
• تأثير إعلام العولمة على الأسرة:
لا شك في أن الأسرة هم عماد الأمة وسبيل نهضتها .. وهم الأمل كذلك .. وفي مقابل ذلك هم الهدف الذي يصوب الأعداء سهام مكرهم للنيل منهم ومنها وأسلحتهم في ذلك ووسائلهم متعددة .. وأهمها وأخطرها (الإعلام) الذي تطور بصورة مذهلة وغدت وسائل الإعلام من صحافة وتلفزيون وإذاعة وكتاب ومجلة ومسرح .. وأخيرا شبكة الإنترنت" هي القوة المهيمنة على عقول وأفكار الناس عموما والشباب على وجه الخصوص فهم من الفئات العمرية التي تتأثر بسرعة بوسائل الإعلام الحديثة وقد أثبت ذلك الإمام علي رضي الله عنه في قوله (إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقى فيها من شيء إلا قبلته) ولذلك فإن البرامج المرسلة من أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة موجهة في غالبيتها إلى الأطفال والشباب والإعلام الحديث من أقوىالوسائل المؤثرة في الأسرة حيث الإخراج الجذاب وثقافة الصورة المؤثرة ووسائل الإغراء القوية . وبات الشباب يتأثر بصورة ملحوظة بما يصدره الإعلام إلينا من أفكار وفلسفات وسلوكيات وأخلاقيات لا تمت إلى مجتمعنا وثقافتنا بشيء ولا يمكن مواجهة ذلك التحدي الخطير إلا بنفس الوسائل والأدوات كما لا يمكن مواجهة الإعلام الغربي إلا بإعلام إسلامي ملتزم وقوي ومؤثر. ومن الواقع المؤلم لشبابنا الذي يكتوي بنار إعلام محطم القيم يقول د. عباس محجوب في كتابه (مشكلات الشباب المطروحة والحل الإسلامي) يمارس الإعلام في البلاد الإسلامية العربية بوعي وبدون وعي أحيانا دورا توجيهيا مدمرا بسبب أكثر ما يعانيه الشباب من تناقض بين قيم التربية التي تدرس له، ثم ما يأتي من الإعلام لنقضه وتشكيكه فيه، الأمر الذي يوقعه في صراع نفسي وفكري فالصحافة لا تتورع أنتنشر حديثا دينيا عميقا في صفحة وتنشر في الصفحة المقابلة لها صورة حسناء فاتنة عارية أو شبه عارية(). كما يضيف الدكتور عباس محجوب أن أجهزة الإذاعة والتلفزيون تعاني من الإفلاس في الفكر والبرامج النافعة ويعتمدان على التمثيل الهابط والمعالجات التي لا تتصل بالواقع ويفصل بين ما يخططه غيرنا لشبابهم وما يكابده شبابنا من تجهيل وستطيح لأفكارهم إعلاميا ولوسائل الإعلام من الخطورة مما قلل من دور البيت والمدرسة في تربية النشء وتوجيه الشباب وذلك بما تملكه من وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة التي تقتحم البيوت والمؤسسات والمنتديات سواء كانت إذاعة أم تلفازا أم صحافة وكل هذه الوسائل تفرض نفسها على الناس .. وتؤثر تأثيرا مباشرة وتجتذب أكبر عدد منهم ولكنها مع ذلك كله تقف عاجزة عنأن تقدم للناس ما تثري به حياتهم وفكرهم للشباب ما يرضي طموحاتهم للثقافة والمعرفة والترفيه وذلك لأنها تعتمد على برامج مستوردة لمجتمعات تختلف عنا في عاداتها ، وطرائف حياتها ومشكلاتها علىتعالجها والحلول التي تقدمها للمشكلات هذا في غير الجوانب العلمية غير الموجهة لخدمة أغراض أخرى.
مع بداية البث الفضائي المباشر عبر الأقمار الصناعية في بداية العام 1989م فقد أصبح في متناول الجميع التنقل بسهولة من قناة إلى أخرى.
والشباب يجلسون محلقين أعينهم أمام شاشة التلفاز إلى درجة الإدمان، وقد أصبحت مشاهدة التلفاز تستغرق أوقاتا طويلة من حياة الأطفال والمراهقين والشباب فقد أثبتت الدراسات والأبحاث أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام أجهزة التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة بينما لا يكون قد أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير.
وأوضحت دراسة حول العلاقة بين الشباب العربي ووسائل الإعلام والثقافة أن أغلبية الشباب العربي والذي يبلغ نسبتهم 75% لا تقرأ الكتب دائما وأن الشباب العربي يكره الكتب الدراسية ويفضل عليها القصص والروايات والكتب الدينية والثقافية والعلمية. وقد لوحظ أننسبة كبيرة من الشباب الذين يشاهدون أفلام الفيديو لم تتحرج من ذكر أنها تشاهد أفلاما ممنوعة. وللإدمان التلفزيوني مخاطر عديدة على ثقافة الشباب، فهي تضعف من قدراتهم العلمية والمعرفية، فكلما زادت مشاهدة الشباب للتلفزيون انخفض تحصيلهم العلمي (وقد أجريت دراسة عن أثر التلفزيون على تحصيل الطالب فأفاد 46% ممن شملتهم الدراسة أنه يشغل عن التحصيل والاستذكار).
ومن أهم مخاطر الإدمان التلفزيوني أيضا تدمير البنية الأخلاقية والقيمية للشباب، إذ أن بعض القنوات متخصصة في بث البرامج والأفلام الإباحية والدعة إلى الرذيلة، مما يؤدي إلى تفجير الغرائز وارتكاب الفواحش وخلق أنماط سلوكية منحرفة من الشباب والفتيات.
إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم أوقاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام. ومن خلال الدراسات التي أجريت على 50 فيلم طويل يتبين أن موضع الحب والجريمة والجنس يشكل 72%منها (). ورغم ما تفرضه الدول من رقابة فقد أحكم الشر قبضته وبدأت تنال من الشباب والإحصاءات تصدق ذلك.
ففي إحصائية عن مشاهدة الفيديو جرت بلبنان تبين أن مشاهدة الأفلام الاجتماعية ولعاطفية حازت على الدرجة الأولى وحلت الأفلام البوليسية المرتبة الثانية .. وقد عبر أحد أفراد خبراء الإعلام بأن الأفلام البوليسية تؤثر كثيرا على سلوك المراهقين والأطفال والنساء وقال: "إذا كانت السينما من خلال الأفلام مدرسة لتعليم الإجرام، فإن التلفزيون جامعة يتلقى فيها الناشئة فنون العنف ليخرجوا عتاة في الإجرام.
وجاء في تقرير من الولايات المتحدة أن 49 % من نزلاء مؤسسات عقابية (عدد من أجريت عليهم التجربة 110) أعطتهم السينما الرغبة في حمل السلاح و 12-21 في المائة أعطتهم الرغبة في السرقة ومقاتلة الشرطة.
ودراسة ثالثة أجريت على 252 فتاة منحرفة بين سن 14-18 سنة تبين أن 25% منهن مارسن الجنس نتيجة مشاهدة لقطات جنسية مثيرة بالسينما و41% قادتهن المشاهد إلى الحفلات الصاخبة والمسارح الليلية و4% هربن من المدرسة لمشاهدة الأفلام و17% تركن المنزل لخلاف مع الأهل حول ذهابهن إلى السينما().
يقول حسن المصطفى (هذا الحضور الكثيف وغير المحدود لهذا الكم الهائل من القنوات الفضائية أدى إلى حدوث تصدعات في البنى الاجتماعية والسلوكية للمجتمع نظرا لعدم استعداد مثل هذه المجتمعات المحافظة لاستقبال مثل هذه الثقافات الوافدة، وإن كانت عربية مثلها، إلا أنها في كثير منها كانت غربية للغاية على هذه المجتمعات).
سبب هذه التصادمات يعود لكون هذه لكون هذه المجتمعات اتبعت أسلوبا محافظا ومغلقا جدا في تعاملها مع ذاتها بدوافعالمحافظة علىالذات وحفظ القيم والتمسك بالإسلام، ولكون هذه الحملات تصطدم بالاسس الثقافية والاجتماعية للمجتمع. ولن تقتصر تلك التصدعات على الجانب السلوكي وحسب، بل ستمتد لمستويات أعمق وأشمل تشمل نواحي فكرية واقتصادية وسياسية وستجعل الفرد أمام كم هائل من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي لا حد لها .
ولا ستجلاء المشهد سنأخذ نموذجين من القنوات الفضائية العربية ونحاول أن نستجلي باختصار أثرهما على الإنسان الخليجي.
قنوات ذات الطابع السجالي الساخن فهذه القنوات عبر برامجها الحورية الساخنة" وعبر نشراتها الإخبارية وبرامج البث المباشر التي تستقبل الكلمات المباشرة من المشاهدين وعبر استضافتها لشخصيات إشكالية ومشاكسة استطاعت أن تستقطب اهتمام المشاهد الخليجي مما أثر على سلوكيات الخليجيين وجعلهم أكثر جرأة على القول والبوح، ورفع من سقف الحرية، أكثر مما عليه وجعله اهتمامات الناس أكثر سعة ووعيا، ويظهر ذلك من طبيعة اتصالات المشاهدين وما يتداولونه في ديوانياتهم ومجالسهم الخاصة، برغم الجدل الذي يجول حول أهدافها الإعلامية.
القنوات الترفيهية التي أثرت على أكثر على البنية الاجتماعية والسلوكية عبر خطابها المنفتح والمتحرر للغاية وخرقها لكثير من المحظورات الاجتماعية والمحرمات السلوكية مما جعل العديد من الظواهر التي تظهر إلى السطح منها .
أ- التبدل السريع في نوعية الحجاب المستخدم من قبل بعض الفتيات الخليجيات وتطور هذا الحجاب بشكل واضح وملفت ، وتحوله من لباس للتستر إلى لباس للزينة والاستعراض الجسدي.
ب- تطور لباس الفتيات الخليجيات ، سواء اللباس المنزلي منه أو اللباس الذي يرتدى عند الخروج للسوق أو أثناء الزيارات فلم يعد اللباس في كثير منه كالسابق ، وإنما أخذ ينحو نحو القصير والتيشيرتات ، والسبورت والجينز والموديلات الحديثة بحيث نجد أن اللباس الذي ترتديه الفنانات والمذيعات ترتديه الفتيات في بعض دول الخليج مما أدى لانحسار نسبي في أنماط اللباس المحلي وازدياد في شعبية الألبسة الحديثة ، وليس الفتيان ببعيدين عن هذا التأثير حيث نجدهم يرتدون مثل نظرائهم في أوربا وأمريكا، بحيث لا نفرق بينهم وبين أي شاب أوربي من حيث الشكل واللباس وقصة الشعر ونوعية النظارة والحذاء.
جـ- إن إعادة صياغة العلاقة بين الفتيان والفتيات من خلال برامج الصبايا مثل " يا لين يا عين " و " ع الباب يا شباب " يمثل أسلوباً جديداً من التعامل لم تعهده المجتمعات الخليجية بل تعتبر أمراً خطيراً ومحرماً ، لكنها ورغم مقاومتها الشديدة لهذه المظاهر ، إلا أنها تظل عاجزة عن المجابهة ، لأن أساس العلاقة بين أفراد الأسرة في هذه المجتمعات خاطئ فليس من المستغرب أن نجد العلاقات الحميمية وإن بشكل غير علني عبر المعاكسات في الأسواق أو الحديث عبر الهواتف المحمولة والمنزلية وعبر الإنترنت بعيداً عن أعين الأهل والمجتمع().
د- كسر الحاجز النفسي عند الفرد الخليجي: وذلك عبر رفع مستوى وسقف المشاهدة إليه ، حيث يشاهد بدون أن يغير القناة أو يطفئ التلفاز عندما تظهر فتاة شبه سافرة.
هـ- تغير نمط تفكير الشباب والفتيات لمفهوم الهوية والعادات والتقاليد فلم يعد ينظر باهتمام بالغ للهوية الخليجية ، وخاصة من قبل جيل الشباب بل بات الأمر هو كيف يحقق كل من الشباب والشابة حلمها ، وكيف يجاريان الفتيات اللبنانيات مثلاً في تغنجهن ولباسهن.
وبالتالي ضعفت العلاقة بين الشباب والفتيات وبيئتهم المحلية ، وباتوا ينظرون لما هو موجود في الخارج ، ويبحثون عن نمط حياة ومعيشة وعلاقات كما تعرض له الشاشة الفضائية وهذا كله سيقود لتبدل على المستوى الفكري لرؤية هؤلاء لمفاهيم كالهوية والقيم والأخلاق والالتزام.
و- شيوع الثقافة الإستهلاكية والثقافة التفاخرية الصورية : ويقصد بذلك تحويل ثقافة الشباب نحو مناحي استهلاكية غير منتجة عبر إغراقه في بحر من الإعلانات التجارية وعبر تقديم نماذج سلوكية لشباب على الطراز الأوربي أو الليبرالي أو العبثي أو الشباب المستمتع بحياته وملذاتها فقط. وعندما يقارن الشاب الخليجي بين وضعه وما يقدم له عبر هذه القنوات سيقع ضحية مقارنة مغلوطة وخادعة ، مما يجعله مقلداً ومنقاداً بشكل لا شعوري نحو هذه الثقافة ، اعتقاداً منه بكمالها وصحتها ومقدرتها على إسعاده ، فيما هو يسير نحو الاستهلاك والهدر ، ومثال ذلك الاستخدام المفرط للهواتف الجوالة ، والاستعراض بالسيارات الحديثة واستخدام الفتيات الملابس الباهظة الثمن والماركات العالمية من المكياج والعطورات والمجوهرات لكي يصل جميع هؤلاء لحلمهم المنشود.
هذا بشكل سريع وموجز رصد لبعض المظاهر التي أحدثتها الفضائيات على المتلقي الخليجي, وما لم تسعى هذه المجتمعات لإعادة صياغة وبلورة نظمها الاجتماعية فإن الزمن والفضائيات لن يمهلانها لأن الزمن والثقافة والسطوة في عالم اليوم للصورة والقنوات الفضائية ، ولا سبيل للمقاومة بالمنع والإكراه وإنما بالمرونة والتحصين والتربية الذاتيتين.
ومن الإشكاليات الثقافية التي تواجه الشباب القراءة التي تعين الإنسان على تثقيف نفسه ، فهي كانت ولا تزال أهم وسيلة من وسائل اكتساب المعرفة وفي استطلاع تم إجراؤه وسط طلاب الجامعات المصرية تم طرح سؤال ماذا تقرأ ؟ ذكرت إحدى " لا تصدقي إن قالت أي فتاة أنها تقرأ كتباً ثقافية أو علمية وكل ما يهم الفتيات هو عالم الأزياء والموضة للتعرف على كل جديد ، أي أن صيحات الموضة أهم من الثقافة.
وذكرت إحدى الطالبات ، أن الكتب للعجائز ولمن لديه وقت فراغ طويل ويشعر بالملل وهي أيضاً للفتيات اللواتي لا يهتممن بالأناقة والجمال ويردن اكتساب جانب ثقافي كتعويض.
وهناك طالبة جامعية قالت في جرأة شديدة أن المكياج والكوافير أكثر أهمية من القراءة والثقافة وأشياء أخرى.
وشاب آخر يذكر أن دراسته للتمثيل ركزت اهتمامه على معرفة كل كبيرة وصغيرة عن النجوم ، كيف يعيشون ، ماذا يلبسون ، وما هي مشكلاتهم ؟ ، وآخرين منشغلين بالبرامج الرياضية.
كما يرى طالب جامعي آخر أن القراءة ليست معياراً لتميز شاب على آخر وإن كانت مطلوبة لكل شاب وشابة لأن الثقافة ضرورية وأغلب مشكلات مجتمعنا وتراجع السلوكيات في البيت والجامعة والشارع تعود إلى نقص واضح في الوعي وعدم الالتزام بالآداب العامة. وطالبة تقول لا حاجة للمكتبة بعد ظهور القنوات الفضائية.
يقول الدكتور كامل عمران أستاذ النظريات الاجتماعية المعاصرة والتنمية الاجتماعية في جامعة دمشق : " من الصعب على المرء أن يحدد فيما إذا كانت الثقافة متدنية في مجتمعنا أم لا فهذا يحتاج إلى دراسة متعمقة. كما أن الثقافة ينظر إليه نظرة متغيرة بمعنى أن لكل عصر ثقافته ولكل مجتمع ثقافته ، وأن الثقافة في مجتمعنا تتطور تطورات كبيرة وأن المرحلة التي يعيشها المجتمع وهي مرحلة تصادم ثقافات مختلفة وانتقال من نمط ثقافي إلى نمط ثقافي آخر قد يعطي هذا الانطباع بأن الثقافة في مجتمعنا تميل نحو التراجع.
• عوامل بقاء الأسرة :
لا يختلف اثنان على أن نطاق الأسرة قد ضاق إلى حد كبير من الأسرة الممتدة التي تشمل الزوج والزوجة والأبناء والأقارب من ناحية الأم أو من ناحية الأب وحتى اتسعت لتشمل الموالي والربائب إلى الأسرة النووية التي تقتصر على الزوج والزوجة والأولاد فقط. كل ذلك أثر على الأسرة وأهدافها ووظيفتها فقد تقلص دور الأسرة إلى حد كبير في الرعاية والحضانة والتوجيه خصوصاً بعد ظهور دور الحضانة ومؤسسات الرعاية الحكومية وغير الحكومية والمدارس والجامعات والملاجئ وكلها تعتبر ممن يهتم بالتربية وتوفير بعض النواحي المادي والعاطفية إلا أن أحداً لا يمكن له الزعم بأن الأسرة ستتلاشى نهائياً أو ستفنى في الدولة أو في الحضانة وذلك يرجع إلى الأسباب التالية:
• الفطرة البشرية:
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد " إن أمرين اثنين تختلف فيهما النظم العائلية ما تختلف بين الشعوب والأجيال وهما ماثلان في كل أسرة وفي كل شعب وفي كل جيل وهما حضانة الطفل ، والألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء وكل هذين الأمرين قائم على الغريزة الفطرية دون سواها على نحو متشابه في جميع الأجناس وفي جميع العصور.
فمن الخصائص التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات أنه طويل الحضانة لأطفاله إذ تبلغ الرعاية للطفل في حدودها الدنيا ما لا يقل عن سنتين رعاية مباشرة وتبلغ إلى عشر سنوات رعاية قريبة أو رعاية مباشرة ، وهذه ضرورة لازمة للطفل كي ينمو ويكبر بخلاف الحيوانات أو الطيور التي تبلغ لدى البعض منها يوماً أو بعض يوم.
ومن الخصائص التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات أيضاً:
أنه يحتاج إلى الألفة الحميمة بينه وبين فرد أو آخر أو مجموعة من الأفراد أياً كانت حالة الاجتماع هذه ، فإن الإنسان اجتماعي بطبعه ، فهو يحاول أن يوجد له مجتمعاً يعيش فيه ، إن لم يكن من القبيلة كان من الأسرة فإن لم يكن من الأسرة كان في المدرسة أو الجامعة أو مجموعة العمل المهم أن يشبه الأسرة أو ينوب عنها فلا يكفي الإنسان مجرد الاجتماع مع مجموعة من الناس في مكان وا حد ولا يكفيه أن يأكل ويشرب مع مجموعة من الناس مهما كانت كبيرة أو صغيرة كما يحدث في المعسكرات أو المدارس الداخلية لكن الإنسان يوجد حنان الأسرة ورعاية الأبوة والأمومة ومع أنه يدرك أنها صناعية إلا أنه يكون سعيداً بهذه الصناعة التي لا تحرمه من إنسانيته وتوفر له روح العائلة وروح الأسرة لأن الإنسان إذا فقد جو الأسرة وروح الأسرة أصيب بما يسمى " النقص الاجتماعي " في أخلاقه القومية أو الإنسانية.
فالفطرة البشرية والغريزة الإنسانية وراء استمرار الأسرة على مدى التاريخ البشري وفطرة الإنسان هي أحوج فطرة بين المخلوقات إلى النشأة في أسرة والاتصال بقرابة عائلية ولا ينفي ذلك وجود هذه الرغبة من كثير من الأحياء الأخرى غير أنها أوضح في التكوين الإنساني وانتساب الفرد إلى دولة أو أمة لا يغنيه أبداً عن النشأة العائلية ولو جاء الوقت الذي تهدم فيه الأسرة وتلغى الأمومة وتصنيع الأبوة تحت زعم تربية المجتمع أو الدولة أو الحضانة لكان ذلك تبديلاً في الخلق وفي الفطرة ، ذلك أن الفطرة قد عودت الناس أن يخدم بعضهم بعضاً ويعين بعضهم بعضاً على توفير مطالب الحياة ، فالأب يشقى وينصب ليسعد أولاده وزوجته كما لو كان ليشقى ويتعب لنفسه هو لفرط ما يشعر به من اللذة والسعادة والسرور برعاية زوجة وإنجاب ذرية ، إن استمرار النوع البشري قائم على الاندماج بين التفاني في خدمة الذرية والسعادة التي يشعر بها الإنسان وهو يؤدي رسالته ، فالفطرة البشرية مع تكوين الأسرة والحفاظ عليها ، وقد جاءت شرائع السماء لتنسجم مع فطرة الإنسان لا لتصطدم بها ، وإذا بدا في بعض الأحيان ما يظهر أنه يخالف الفطرة أو يطصدم معها فإن ذلك يحدث عندما تتراكم طبقات الفساد على النفس البشرية فتنحرف بها عن فطرتها ، هنا تأتي شرائع السماء لترفع هذا الران من على النفوس والقلوب لتعيد الإنسان إلى فطرته فهو إذا اصطدام تهذيب وتقويم وليس اصطدام صراع وفناء.
ويرتبط تأسيس الأسرة بفطرة الله التي فطر الناس عليها من نزوع كل من الجنسين نحو الآخر وهو ما يجعل الأسرة إحدى السنن الاجتماعية الثابتة على مر التاريخ ، ومهمة تشريعات السماء الخاصة بالتكوين الاجتماعي والأسري هي المحافظة على صلات المودة والرحمة والسكن التي هي في الوقت نفسه صفات كامنة في صميم خلقة الإنسان وفطرته والتي لا تتبدل ولا تتغير ، مهمة الديانات إذاً بالإضافة إلى حثها على تكوين الأسرة والترغيب في ذلك فإنها وضعت أيضاً السياج الأخلاقي الذي يحفظ الأسرة وأفرادها والمجتمع كله من الضياع والانحراف.
ولقد كانت أقوال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأفعالهم أحد روافد الحث على الأسرة وتكوينها ، فهذا نبي من الأنبياء يناجي ربه ( رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) وآية أخرى ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين .. الآية ). وفي موضع آخر ( رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ). ولم يشذ عن هذه القاعدة رسول مرسل أو نبي ، بل جميعهم على ملة إبراهيم حنيفاً من تكوين الأسرة والحفاظ على مقوماتها ، وإذا كان موقف الكنيسة من الشذوذ والانحراف الجنسي بدا غامضاً في الآونة الأخيرة وأمام المد العلماني الرهيب ما أدى إلى تراجع بعض الكنائس وتقبلها لانخراط الراهبات اللاتي يمارسن الشذوذ في سلك الكنيسة - كما ظهرت هذه الظاهرة أيضاً في بعض المعابد اليهودية - فإن البابا كان له رأي مخالف لما ذهبت إليه مؤتمرات الأمم المتحدة الأخيرة في كل ما من شأنه أن يهدم الأسرة أو يهدد كيانها ، هذا الرأي وقفه أيضاً شيخ الأزهر الراحل عليه رحمة الله ، وكذلك هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
ويبقى الإسلام أحكاماً وتطبيقاً هو النموذج الأمثل الذي دافع ولا يزال يدافع ويقاوم كل الهجمات الآتية من الشرق والغرب ومن الداخل أيضاً التي تهاجم الأسرة ، وقد امتدت عناية الإسلام بالأسرة من جميع جوانبها ووضع من 0التشريعات والقواعد ما يضمن لها البقاء والدوام ومن أمارات تلك العناية ...
*عناية الإسلام بالعلاقة الزوجية واهتمامه بكل مرحلة من مراحلها حيث تعرَّض للخطبة وحسن اختيار الزوجة وحقها في اختيار الزوج وقبوله أو رفضه وعظم من خطورة عقد الزواج وسماه " الميثاق الغليظ ".
*بيان الإسلام ما يترتب على الزواج من حقوق وواجبات ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ) سورة البقرة (228) واعتبار الزواج هو الصورة الوحيدة للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة ووضع من القواعد والأصول ما يحافظ على الأسرة وكيانها.
* أوجب الإسلام العناية بثمرة الزواج من إرضاع وحضانة وإنفاق وتربية.
* معالجة الإسلام ما قد يحدث بين الزوجين من خلاف أو شقاق حيث وجههما إلى الصلح تحاول المرأة إصلاح زوجها ويحاول الزوج إصلاح زوجته فإن لم يستطيعا تدخل حكمان واحد من أهلها وواحد من أهله.
* تشريع الطلاق في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية.
* تشريعه كل ما يصون الأعراض ، حماية للبيوت من التصدع والانهيار.
ومن هذه التشريعات:
• تحريم الزنا.
• عدم إفشاء أحد الزوجين سر الآخر.
• تحريم القذف.
• إيجاب الحجاب للنساء عند البلوغ.
• وإيجابه الاستئذان عند الدخول حتى لا يكشف الداخل عورات البيوت.
• وتحريم الاختلاط والخلوة بالأجنبية.
فهكذا يبدو واضحاً حرص التشريع الإسلامي وعنايته بجميع ما يتعلق بالأسرة إعزازاً لشأنها واهتماماً بدورها ، ولقد كان لهذه العناية أثر بالغ في جمع شامل الأمة الإسلامية مما جعلها تقف صامدة أمام التيارات المعادية والهجمات الشرسة التي تحاول القضاء عليها منذ أمد بعيد().
أما المجتمعات الغربية والتي تسود فيها موجات التحرر التي تصل إلى الحيوانية فإنه مما يزعج إن إهدار قيمة الأسرة وإهمال دورها بل والتعدي عليها هو مكمن الخطر وسر السقوط هناك، وهو سقوط غير بعيد على الرغم مما لديهم من أسباب الحضارة والبقاء، إن الملاحظ في الغرب الآتي:
• انخفاض عدد الشباب وزيادة عدد المسنين.
• انخفاض عدد المواليد أحياناً عن عدد الوفيات.
• انخفاض معدلات الزواج في أوساط البالغين.
• ميل نسبة كبيرة من الأزواج إلى عدم الإنجاب أو تأخيره وقصره على أقل عدد من الأطفال.
• انتشار ظاهرة الطلاق.
• التفكك الأسري.
مما يجعل كثير من العقلاء فيهم والحكماء يحذرونهم بأن هذه الظواهر هي بداية انهيار الحضارة الغربية ويدعونهم إلى الأسرة وإلى الحفاظ عليها مما جعل أحدهم يدخل المعركة الانتخابية وهو يرفع شعار " الأسرة والقيم " وما يجعل من يتهم في إخلاله بالأسرة وقيمها يفقد مكانته ، وما يجعل كثير منهم يهتم بالأسرة ويعتز بها لو نظرياً.
[ الخـــاتمة ]
إن الأسرة ظاهرة اجتماعية قديمة قدم الإنسان على الأرض وقد مرت بمراحل تطور كبيرة سواء في نظامها أو في وظائفها ومهمتها التي تعددت من وظائف اجتماعية واقتصادية إلى وظائف سياسية وتربوية.
• وجاء الإسلام أحكم الأحكام وأبقى الحسن من بقايا آثار النبوات وسلامة الفطرة وألغى السيئ من انحرافات البشر ووضع للأسرة من التشريعات والضوابط ما يجعلها أحد أهم سمات المجتمع الإسلامي ، غير أنه لا يمكن أن نفصل فصلاً تاماً بين الأسرة في القديم والأسرة الإسلامية والأسرة المعاصرة فقد تأثر كل منها بالآخر ويبقى أن الأسرة في القديم والأسرة الإسلامية والأسرة المعاصرة فقد تأثر كل منها بالآخر ويبقى أن الأسرة خاضعة لما يفرضه عليها المجتمع من قواعد وقوانين وهي تستجيب لكل ذلك مستسلمة تارة ومقاومة تارة أخرى بحسب ما لديها من مفاهيم وأفكار تتفق أو تختلف مع ما يأتي به المجتمع من تشريعات.
• كثيرة هي المعوقات التي تحول بين الأسرة وقيامها بوظائفها ويبقى أخطر هذه المعوقات انتشار الفساد وإباحية الزنا والاختلاط ونشر ثقافة غريبة غربية تحت ستار العولمة عبر مؤتمرات ومؤامرات دولية مشبوهة يقوم على إدارتها أناس لهم أهدافهم المشبوهة ، وعلى الرغم من كل هذه المعوقات فإن القناعة الثابتة لدينا هي بقاء الأسرة واستمرارها ، فهي ستبقى على الرغم من كل الهجمات التي وجهت وتوجه إليها حتى الآن يساعدها في ذلك أيضاً الديانات السماوية وأهم هذه الديانات هي الإسلام الذي أعطى النموذج المثالي حكماً وعملياً في الحفاظ على الأسرة وبقاء كينونتها وفي حين أن بقاء الأسرة أحد أسرار بقاء الأمة الإسلامية فإن إهمال الأسرة في الغرب هو القنبلة الموقوتة التي تهدد بزوال حضارة الغرب كلها ، فإن من يعادي الأسرة يعادي الفطرة ويعادي الأديان ويعادي حضارة الإنسان التي شادها وشيدها على مر السنين.
المصدر:منتدى اجتماعي