مسلم وأفتخر


فضل طلب العلم وآدابه 403042602



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

مسلم وأفتخر


فضل طلب العلم وآدابه 403042602

مسلم وأفتخر

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
مسلم وأفتخر

المنتدى الإسلامي مسلم وأفتخر يرحب بكم أعضاء وزوارا


    فضل طلب العلم وآدابه

    مسلمة وأفتخر
    مسلمة وأفتخر
    :: المديره العامّه ::
    :: المديره  العامّه ::


    انثى عدد المساهمات : 1110
    تاريخ التسجيل : 31/01/2012
    العمر : 30
    الموقعhttps://muslim.forumalgerie.net
    تعاليق :


    (¯`•.¸¸.• أنا مسلم•.¸¸.•´¯)





    فضل طلب العلم وآدابه Empty فضل طلب العلم وآدابه

    مُساهمة من طرف مسلمة وأفتخر أكتوبر 13th 2012, 15:12

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
    أيها الإخوة المؤمنون... بدأنا في الدرس الماضي موضوعاً عن العلم، وعن فضل العلم وهناك بعض الأحاديث الشريفة التي ينبغي أن تُوَضَّح لتكون الصورة كاملة حول موضوع العلم يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة:

    (( يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ))

    ( من سنن ابن ماجة: عن " أبي ذر " )
    هذا الحديث الشريف يبيِّن فضل العلم على العبادة.. لأَنْ تَغْدُوَ.. أي لأن تذهب، والعلم له مواطن، وموطنه في المسجد.. ((لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ)).. كتاب الله، إذا تعلَّمت آيةً، تعلَّمت قراءتها، وتعلَّمت معناها، وعملت بها، ارتقيت، والله سبحانه وتعالى يقول:

    ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾

    ( سورة المجادلة )
    فالإنسان له عند الله مقام يحدِّده علمه، ويحدِّده عمله، فالذي يتعلَّم آيةً شيء، والذي يتعلَّم آيتين شيء، والذي يتابع مجالس العلم بحيث يستمع إلى تفسير سورٍ طويلة هذا شيءٌ آخر، فكلَّما ازددت علماً ازددت من الله قُرباً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

    (( لا بورك لي في شمسِ يومٍ لم أزدد فيه من الله علما)). وهناك قول آخر: (( لم أزدد فيه من الله قرباً))
    إذاً هذا الحديث الذي رواه ابن ماجة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يؤكِّد فضل العلم على العبادة، لأن العالِم ربَّما كان..

    ((فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ))

    ( من سنن ابن ماجة: عن " ابن عبَّاس " )
    لكن العابد لأتفه سببٍ، أو لأقل ضغطٍ، أو لأقلِّ إغراءٍ تنهار مقاومته، العابد مقاومته هَشَّة، أي أنه سريعاً ما ينتكس، سريعاً ما يترك، سريعاً ما يعود كما كان عليه، لأنه باني سلوكه على أحوال طارئة، على فورة عاطفيَّة، لكنَّه لو بنى سلوكه على تحقيقٍ، ويقينٍ وحقيقةٍ، وبحثٍ، ودرسٍ، إن العلم سلاح المؤمن، فلهذا هذه الملاحظة الأولى المستنبطة من هذا الحديث الشريف:

    (( يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ ))
    أي أنك تعلَّمت هذه الآية، فاستفدت منها، فارتقيت عند الله..

    (( وَلأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ ))
    لأنه بالتعلُّم تستفيد أنت وحدك، لكنَّك في التعليم تُفيد، والذي يفيد أفضل من الذي يكتفي بأن يستفيد.
    ويقول عليه الصلاة والسلام:

    (( إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ))

    ( من صحيح مسلم: عن " ابن سيرين " )
    دان إلى الشيء بمعنى خضع إليه، فأنت إذا تعلَّمت حقيقةً خضعت إليها، فإن كان العلم صحيحاُ كان خضوعك صحيحاً، وإن كان العلم مغلوطاً كان خضوعك مغلوطاً، فلأن العمل أساسه العِلم، ولأن السعادة والشقاء أساسها العمل، فالقضيَّة خطيرة جداً، لو تعلَّمت أن على الإنسان أن يفعل ما يشاء من المعاصي، ثمَّ يشفع له النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة يشفعُ له، هذا علمٌ خطير، أو هذه فكرةٌ خطيرة.
    النبي عليه الصلاة والسلام يشفع له، والشفاعة حق، وفيها أحاديث صحيحة ؛ ولكن لمن مات غير مشرك، أما الذي يفعل الموبيقات، ويفعل المعاصي من دون حرج، معتمداً على أن النبي عليه الصلاة والسلام سيشفع له، هذا مفهومٌ ساذج، ومعناً ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام حينما حدَّثنا عن الشفاعة.
    فقد تستقي بعض المعلومات، أو بعض الأفكار، أو بعض الأوهام من مصادر غير موثوقة، فإذا صَدَّقتها، وقبلتها، واعتقدتها، وعملت بها أهلكت نفسك، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

    (( إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ))

    ( من صحيح مسلم: عن " ابن سيرين " )
    النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

    ((ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا ))
    الذين مالوا يعطونك من الرُخَصِ ما تشاء، يُسَهِّلون لك كل شيء، فأي شيء تحبُّ أن تخالف بعه الشريعة يعطونك فتوى، هؤلاء الذين مالوا، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

    (( دينك دينك إنه لحمك ودمك خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا))
    وهذا يؤكِّد هذا الحديث:

    (( إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ))
    لو سُمِحَ لك بالاختلاط، وتعلَّقت نفسك بامرأةٍ لا تحلُ لك، كانت هذه المرأة حِجَاباً بينك وبين الله، لو سُمِحَ لك بأكل الربا قليلاً وشعرت أنَّك خَرَقْتَ حدود الله، كان هذا الأكل للمال الحرام حجاباً بينك وبين الله، لو أُلقي على مسامعك أن شفاعتي كما قال عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر من أمَّتي، مطلقةً من دون توجيةٍ خاص، من دون تأويل، من دون تضييق، من دون تقييد، هكذا لأهل الكبائر من أمَّتي، فأنت تعتقد بهذا، وتفعل من الكبائر ما تشتهي، ثمَّ تُفاجأ أن الإنسان سيُحاسب عن أعماله كلها، فالأمر ليس من السهولة بمكان، الأمر خطير..

    (( إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ))
    شيءٌ آخر: يقول عليه الصلاة والسلام:

    (( ما أعزَّ الله بجهلٍ قط ولا أذلَّ بعلمٍ قط))
    مستحيل إلا أن يكون العلم سبباً للرفعة عند الله وعند الناس، وعند نفسك، لأن رتبة العلم أعلى الرتب، ولا أذلَّ بعلمٍ قط، فالجهل قبيح وصاحبه ذليل، والعلم جيِّد وصاحبه عزيز، فإذا أردت عزَّ الدنيا والآخرة فعليك بالعلم، وعليك بطلب العلم..

    (( ما أعزَّ الله بجهلٍ قط ولا أذلَّ بعلمٍ قط ))
    فحتَّى في الدنيا، حتَّى الذين تَعَمَّقوا في علوم الدنيا لهم مكانةٌ رفيعة، قد يكون حولهم أناسٌ متقدِّمون في السن ولكن يقفون أمامهم كالأطفال، فالعالِم شيخٌ ولو كان حدثاً والجاهل حدثٌ ولو كان شيخٌ، فإذا أردت عزَّ الدنيا والآخرة، إذا أردت أن يعزِّك الله عزَّ وجل فاطلب العلم، فبين أن يموت الإنسان ولا يدري به أحد، بين أن يموت الإنسان ولا يكترث لموته أحد ؛ وبين أن يموت العالِم فتهتزُّ لموته بلدةٌ بأكملها، هذا شأن العلم، وهذا مقام العلم، وهذه رفعة العلم وهذا فضل العلم.
    ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الطوسي:

    (( طالب العلم بين الجُهَّال كالحي بين الأموات ))
    أي أن الجاهل ميِّت، جسده حي لكنَّ نفسه ميِّتة، والعالِم حي، ليس العالِم بل طالب العلم، طالب العلم فقط، فإذا جلس طالب العلم بين إخوةٍ له، أو بين زملاء له، أو بين أقرباء، أو بين جيران، في جلسة، في نُزهة، في سهرة، في نَدوة، طالب العلم متفتِّح، طالب العلم مستنير، طالب العلم متوازن، طالب العلم مُعْتَدِل، طالب العلم كلامه صحيح، وكلامه فيه دقَّة، طالب العلم لا تجمح به نفسه، طالب العلم عفيفٌ عن المحارم، طالب العلم عفيفٌ عن المطامع، فهذا طالب العلم كأنه حيٌّ بين الأموات، وشتَّانَ بين الحي وبين الميِّت، الميِّت جثَّة هامدة، لا يعلم، ولا يتكلَّم، ولا ينطق، ولا يتنفَّس، ولا يفكِّر، ولا يسأل، ولا يجيب، فالإنسان من دون علم كأنه هبط إلى مرتبة الحيوان ؛ جسم يأكل، ويشرب، وينام، ويعمل، ويستمتع فقط، لا يزيد الإنسان من دون العلم عن أن يكون في مستوى البهائم، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:

    (( طالب العلم بين الجُهَّال كالحي بين الأموات ))
    وقال عليه الصلاة والسلام:

    ((إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ ؟ حِلَقُ الذِّكْرِ ))

    ( من سنن الترمذي: عن " أنس بن مالك " )

    (( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ الْمَسَاجِدُ))

    ( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
    فإذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم بقلبٍ مخلص، وبنيَّةٍ عالية، وقد بذل جهداً ووقتاً وجلس وفق أصول المجالس ؛ بأدبٍ جم، وبإنصات، فمستحيلٍ إلا أن يكرمه الله سبحانه وتعالى لأنه: " إن بيوتي....... وحق على المزور أن يكرم زائره ".
    أخ من الإخوة الأكارم قال لي: أنه وهو في مجلس العلم شعر بسعادةٍ لا توصف، شعر بالسكينة، شعر بالاطمئنان، شعر بالسعادة، شعر بالسرور، هذه كلُّها من نتائج مجالس العلم..

    (( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قُلْوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ مجالس العلم ))
    ويقول عليه الصلاة والسلام:

    (( وقِّروا من تعلمون منه العلم، ووقِّروا من تعلِّمونه العلم ))
    أما توقير من تتعلَّمون منه العلم فالمعنى بديهي، ولكن توقير من تعلِّمه !! هنا إشارة دقيقة جداً إلى أن المتعلِّم إذا شعر أنه محبوب، وأنه مطلوب، وأنه مرغوبٌ فيه، وأن المعلِّم رحيمٌ به متواضعٌ له، واسع الصدر، طويل النفس، يأخذه بالحلم، يصبر على أسئلته غير المتوازنة يفسح له مجالاً ليسأل، إن هذا التواضع والتوقير لمن تُعَلِّمه هو أثمن من العلم نفسه، بهذه الطريقة يستفيد طالب العلم.
    أما إذا كان هناك استعلاء، أو كان هناك بعدٌ بين المعلِّم والمتعلِّم، أو كان هناك تكبُّر، أو كان هناك استخفاف بالمتعلِّم، أو كان هناك سخريةٌ منه، أو كان هناك إجابةٌ قاسية لاذعةٌ ؛ فإن المتعلَّم يستحي، وينكمش، ويبتعد، ويكون حجابٌ كثيفٌ بين المعلِّم والمتعلِّم، عندئذٍ لا ينفع العلم.
    فلذلك النبي الكريم عليه أتمُّ الصلاة والتسليم أشار إلى ضرورة أن توقِّر من تعلِّمه، أن يشعر المتعلِّم أن له مكانته عند المُعَلِّم، وأن طلب العلم شيءٌ يُشَرِّفه ويرفعه، فالذي يعلّم الناس ينبغي أن يتواضع لهم، وينبغي أن يوقِّرهم، وينبغي أن يُلَبِّي مطالبهم، وينبغي أن يصبر على أسئلتهم، وينبغي أن يكون طويل النفس معهم، وينبغي أن يكون واسع الصدر، وينبغي أن يكون حليماً، وينبغي أن لا يردَّ سائلاً، هذه الصفات التي تؤهِّل المعلِّم أن يؤثِّر في المتعلِّم.
    والنبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث المتعلِّقة بالعلم يقول:

    (( قيدوا العلم بالكتابة))

    (( قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ ))

    ( من سنن الدارامي: عن " عمر بن الخطَّاب " )
    هنا نقطة دقيقة جداً، الإنسان أحياناً يحضر مجالس علم، ويستمتع بها، ويستفيد بها، لا يبقى منها بعد حين إلا الانطباع، والله الدروس جميلة، فلو سألته: حدِّثنا، يجبك: والله حكى أحاديث جميلة جداً، وحكى قصص كذلك، لكنَّه لا يتذكَّر شيء، فالإنسان إذا ما كتب لا يذكر فيغني عن الكتابة أن تعلم أن الأستاذ يدرِّس من كتاب الجامع الصغير، فإذا أنت اقتنيت الجامع الصغير، وعدت إلى البيت ورجعت إلى هذه الأحاديث، تذكَّرت ماذا قيل حولها، فإذا كنت ذا همَّةٍ أعلى من ذلك تكتب بعض التعليقات، فمن الضروري أن تعرف ما الكتاب الذي يُدرَّس في المسجد.
    شيءٌ آخر: لو أنَّك حضرت درس تفسير، في أثناء الدرس مسرور، لكن إذا ذهبت إلى البيت، وراجعت المصحف، ووقفت عند الآيات التي تمَّ شرحها، وناقشت من حولك في هذه الآيات، أو رجعت في بعض التفاسير، ووازنت بين ما سمعت وبين ما في التفاسير، أو كتبت بعض المُلاحظات حول بعض الآيات، إنَّ هذا الجهد الذي تبذله بعد مجلس العلم يثبِّت الحقائق التي تمَّ شرحها في مجلس العلم.
    لذلك الآن تحصل حالة اسمها امتلاك، الآن أنت امتلكت هذه الآيات، هذه الآيات فُسِّرَت هكذا، وهذا الحديث شُرِحَ هكذا، وهذه القاعدة شُرِحَتْ وفق الأصول التالية، إنَّك إذا كتبت وتذاكرت ثَبَّتت هذه المعلومات، من أسبوعٍ إلى أسبوع، ومن شهرٍ إلى شهر، ومن عامٍ إلى عام تصبح عالِماً، أما أن يُكْتَفى بحضور مجالس العلم من دون جهدٍ إطلاقاً، لا جهد يسبق المجلس ولا جهد يتبع المجلس، ولا مُذاكرة، ولا رجوع لكتاب، ولا كتابة، هذا الإنسان حضوره جيِّد نقول له: احضر هذه الدروس، ولكن لا يستطيع يرقى مع الأيَّام إلى درجة أن يعلِّم الناس، يبقى مستهلك، يستمع، يستمع، يستمع إلى ما شاء الله، متى تُعْطِي العلم ؟! أيعقل أن تمضي كل حياتك تستمع ؟! ألا ينبغي أن تضع حدَّاً للاستماع وأن تنتقل إلى التعليم ؟ ألا ينبغي أن تنصح من حولك ؟ ألا ينبغي أن تلقي على الناس حديثاً صحيحاً ؟ روى الطبرانيُّ في الكبير عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، تلقي حديث بشكل صحيح، ألا ينبغي أن تضبط ألفاظ الحديث ؟ لذلك طلب العلم يحتاج إلى جهد، وليس من جهدٍ على وجه الأرض أرقى عند الله من الجهد الذي تبذله في طلب العلم.
    فالحد الأدنى الأدنى إذا أحضر الإنسان الدفتر وكتب بعض الأحاديث، والله عمل طيِّب معه دفتر، من درس إلى درس صار معه دفتر ملئ بالأحاديث، فإذا لم يتمكن من ذلك، وتمكَّن أن يستعير شريط مثلاً للدرس، الدرس ترك فيه أثر كبير، تمكن من شراء شريط أو استعار الشريط، سمع الدرس مرَّة ثانية، سجَّل، فلا يوجد علم من دون جهد.
    لماذا التعليم المدرسي مجدي ؟ لأنه في كتاب، وفي معلِّم، وفي امتحان آخر السنة تضطر تقرأ الكتاب، وتعلِّق عليه، وتعمل هوامش، وتضع خطوط، وتعمل مذاكرة، وتعمل مراجعة، وتحفظ، وتبصم، وتؤدي امتحان فتنجح، أنت بذلك جهود كبيرة جداً حتَّى أصبح هذا الكتاب من ممتلكاتك العقليَّة.
    لكن الإنسان من دون جهد لا يرقى، يبقى في مكانه، مستقيم مستقيم على العين والرأس يغضُّ بصره، ويحرِّر دخله، ولا يخالف الشرع، هذا مستهلك، هذا ناجي ؛ ولكنه لا يرقى إلى مستوى أن ينجي غيره، ألا تطمح أن تكون عالِماً ؟ ألا تطمح أن تكون مُعَلِّماً ؟ فلماذا تزهد في تعليم الناس ؟ يقول عليه الصلاة والسلام لسيدنا على كرَّم الله وجهه:

    (( فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))

    ( من صحيح البخاري: عن " سهل بن سعد " )

    الدنيا فيها شيء جميل جداً..

    ((خيرٌ من الدنيا وما فيها ـ خيرٌ لك ممن طلعت عليه الشمس ـ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ))

    فالتعليم يحتاج إلى جهد، ولا في جهد أرقى ولا في جهد أعظم عند الله من جهد التعلُّم ثم التعليم، إذاً:

    (( قيدوا العلم بالكتابة ))
    فأتمنَّى على جميع الإخوان في الدرس القادم يكون معهم دفاتر يكتبوا، وحينما أرى الدفاتر أمامي أنا اضطر أن أقرأ الحديث ببطء، أن أمليه على الإخوة الأكارم إملاءً، لكن ما دام في استماع فقط فأنا اقرأه قراءةً، هذا الحديث:

    (( قيدوا العلم بالكتابة ))
    تقول لك زوجتك: ماذا سمعت في الدرس احكي لنا، والله كان درس جميل جداً، احكي لنا حديث، والله لا أتذكَّر.
    الإنسان سمع خطبة سمع حديث المراجعة ضروريَّة، المراجعة والمذاكرة، وأنا أنصح الإخوة الأكارم لكي يستفيد فائدة صحيحة، دائماً الإنسان يهرب من الجهد، هكذا طبيعة الإنسان يميل إلى الراحة، لو ما كان في مدارس، وفي فحوص، وفي مراكز، وفي شهادات لا أحد يتعلَّم، فلمَّا يحضر الإنسان الدرس ينسر، ويقول لك: الذي عليَّ أديته، الأستاذ رآني فانته الأمر ليس هذا هو القصد ؛ بل القصد أنك حينما تقاوم نفسك، وتبذل جهد خلاف ما تشتهيه النفس النفس تميل للراحة، عندما تراجع أنت بعد الدرس الأحاديث، أو في أثناء الدرس تكتبها، وتكتب بعض التعليقات على الحديث، وشرح بعض الكلمات، وتحاول في البيت تحكيها لزوجتك، أو لأولادك، أو لإخوانك، أو لجيرانك، أو لزملائك، عندما ينطلق اللسان في شرح الأحاديث وشرح الآيات هذه بدايات التعليم، عندما يكون الإنسان في قلب عشرات الأشخاص، في قلب المئات، ساعة إذٍ يشبه أن تنطبق عليه هذه الآية:

    ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾

    ( سورة النحل: من آية " 120 " )
    لا تكن فرد، كن أمَّة، كيف تكون أمةً ؟ إذا علَّمت الناس، فأنا أشجِّعكم وأتمنَّى عليكم أنه إذا سمع الإنسان حقيقة وتأثَّرت نفسه بها ينقلها للآخرين، لا يكتفي بالسماع والتأثر الآني..

    (( قيدوا العلم بالكتابة ))
    ويقول عليه الصلاة والسلام:

    ((ما جُمِعَ شيءٌ أفضل من علمٍ إلى حلم ))

    أحياناً تجد إنسان ذكي يحصِّل معلومات ومعارف جيِّدة، لكن تتعامل معه تجد في معاملته سوء، في كبر أحياناً، في حب للذات، في رغبة أن يستأثر بكل شيء، عندئذٍ تقول في أعماق نفسك: آه ليت أخلاق هذا الإنسان كعلمه، محصِّل علم جيِّد لكن أخلاقه ليست في مستوى علمه وأحياناً تجد إنسان آخر معاملته من أرقى ما يكون، أفكاره محدودة، وله تفسيرات مضحكة فتقول: آه ليت علمه كأخلاقه، لكنَّك إذا جمعت بين العلم وبين الخُلُق، بين أن تكون عالِماً متفتِّح العقل، وبين أن تكون طيِّباً طاهراً النفس فهذا هو المثل الأعلى الذي نصبوا إليه، نصبوا في الإنسان أن يجمع بين العلم وبين الخُلُق، بين الفطنة وبين الطيب..

    (( ما جُمِعَ شيءٌ أفضل من علمٍ إلى حلم ))

    علم إلى حلم، الحلم كناية عن الأخلاق الفاضلة لأن الحلم سيِّد الأخلاق، والعلم تحصيل للعلم الشرعي الشريف هذا يرفع مكانة الإنسان.
    حديثٌ آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

    (( تناصحوا في العلم ولا يكتم بعضكم بعضاً، فإنَّ خيانةً في العلم أشدُّ من خيانةٍ في المال ))
    لو أن أحد الشريكين قبض مبلغاً ووضعه في جيبه، أليست هذه خيانة ؟ طبعاً خيانة، ما ظنُّك أن الذي يكتم العلم، يكتم حكماً شرعياً، يكتم معناً لآية، يكتم توجيهاً نبوياً لمصحةٍ يريدها أو اتقاء شرٍ يخافه، إنَّ هذه خيانة لا تقلُّ عن خيانة المال، فإن العلم دين، والله سبحانه وتعالى أخذ على العلماء عهداً أن يبيِّنوا للناس ولا يكتمون العلم..

    ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾

    ( سورة آل عمران: من آية " 187 " )
    فكتمان العلم خيانةٌ كبيرة.
    ويقول عليه الصلاة والسلام:

    (( مجالسة العلماء عبادة ))
    أي أن نوعٌ من العبادة أن تجلس في مجلس علم، نوعٌ من العبادة، إنَّك بالعلم ترقى وربَّما لا ترقى بالعبادة.
    وهناك أحاديث أخرى نُرِجِئها إن شاء الله في وقتٍ آخر..

    (( إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ))

    ( من صحيح البخاري: عن " عمرو بن العاص " )
    إن من إجلال الله تعالى إكرام العلم والعلماء وذي الشيبة....
    هاب من كل شيء، بين أن يهابه كل كل شيء، وبين أن يهاب من كل شيء.

    (( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))

    ( من سنن ابن ماجة: عن " ابن عمر " )

    (( لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ولا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ "))

    ( من سنن ابن ماجة: عن " جابر بن عبد الله " )
    وهناك أحاديث كثيرةٌ جداً تتعلَّق بالعلم والعلماء يرجا أن تعودوا إليها في أي كتابٍ يقع تحت أيديكم من كتب الحديث الشريف.

    * * * * *

    والآن إلى القصَّة التي وعدناكم بها في الدرس الماضي من متمِّمات قصَّة النجاشي ملك الحبشة.
    رملة بنت أبي سفيان، أبو سفيان زعيم قريش وسيِّدها، وكان من ألدِّ أعداء الدعوة الجديدة الإسلاميَّة، الشيء الذي كان يُصْعَق له أن ابنته، أقرب الناس إليه، فِلْذَةُ كبده أسلمت رملة بنت أبي سفيان كفرت بآلهة أبيها سيِّد قريش، وآمنت هي وزوجها عُبيد الله بن جحشٍ بالله وحده لا شريك له، وصدَّقت رسالة نبيِّه محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، فأرهقتها قريش من أمرها عسرى، وأنزلت بها أشدَّ العذاب، حتَّى باتا هي وزوجها لا يُطيقان البقاء في مكَّة، فكانا من عداد المهاجرين إلى الله بدينهم اللاجئين إلى النجاشي بإيمانهم، فلقيا عنده ما لقياه إخوانهم المهاجرون من كرمٍ الوفادة وحسن الجِوار، حتَّى خُيِّل لأم حبيب أن الأيام قد صفت لها بعد عبوس، إذ لم تكن تعلم ما خبَّأته لها المقادير.
    فلقد شاء الله سبحانه وتعالى وتباركت حكمته أن يمتحن أم حبيبة امتحاناً قاسياً، تطيش فيه العقول، ذلك أن زوجها المؤمن عبد الله بن جحشٍ قد ارتدَّ عن دينه، وتنصَّر، وجعل يهزأ بالإسلام والمسلمين وهو في الحبشة، وأَكَبَّ على حانات الخمَّارين يعاقر أم الخبائث فلا يرتوي منها ولا يشبع، وقد خيَّرها بين أمرين أحلاهما مر ؛ إما أن تُطَلَّق وإما أن تتنصَّر.
    أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان وجدت نفسها بين ثلاث: إما أن تستجيب لزوجها فترتدَّ عن دينها، وبذلك تبوء بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وإما أن تعود إلى بيت أبيها في مكَّة وهو ما زال قلعةَ الشرك، وإما أن تبقى في بلاد الحبشة وحيدةً شريدةً ومعها ابنتها الصغيرة حُبَيْبَة.
    الثلاث خيارات صعبة، إما أن ترتدَّ عن دينها إرضاءً لزوجها وفي هذا خزي الدنيا والآخرة، وإما أن تُطَلَّق وتعود إلى بيت أبيها في مكة، وبيت أبيها قلعة الشرك، وسيشمت بها كل الناس، وإما أن تبقى في الحبشة وحيدةً شريدةً طريدة.
    فهذه القصَة والله الذي لا إله إلا هو تتكرَّر كل يوم، الإنسان أحياناً يُوضَع بموقف صعب هذه طاعة الله وهذه معصيته، مع المعصية كل الرخاء، وكل النعيم، ومع الطاعة كل المتاعب هذا الامتحان..

    ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

    ( سورة العنكبوت )
    أهكذا ؟ لابدَّ من أن تُمْتَحن، وهذا امتحانٌ صعب، ماذا فعلت رملة بنت أبي سفيان أم حُبيبة ؟ آثرت رضى الله عزَّ وجل على كل أمر، وأزمعت البقاء في الحبشة حتَّى يأتي الله بفرجٍ من عنده، فليس أماما غير ذلك، هذا هو المؤمن مقاومته شديدة جداً، لا تلين له قناة، فالمؤمن لا ينهار..

    ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾

    ( سورة آل عمران )
    وكما قلت في خطبةٍ سابقاً: لا تقوى سبائك الذهب اللامعة، ولا الضغوط المانعة أن تصرفه عن دينه.
    لم تطل مأساة أم حبيبة كثيراً، فلقد قضى زوجها نحبه وهو سكران مخمور، مات على الكفر..
    حدَّثني شخص قال لي: شخص خدم والدته اثني عشر سنة، خدمها خدمةً ممتازة، ثم ضاق زرعاً بخدمتها، وتبرَّم، وزمجر، وغضب، واستدعى إخوته وقال: هذه أمكم ليست أمي آن الأوان أن تأخذوها عني، خذوها عني، وكسر خاطرها، فأخذها إخوته إلى بيتهم وفي اليوم التالي توفيت، كيف خُتِمَ هذا العمل بأسوأ نتيجة.
    وأعرف رجلاً خدم أرملةً عشرين سنةً، وكانت تقطن إلى جوار بيته، امرأة عاجزة متقدِّمة في السن، ثم انتقل إلى حيٍ آخر بعيدٍ جداً عن حي هذه الأرملة، فجعل يذهب كل يومٍ من حيٍ بعيدٍ إلى حيِّها ليقدِّم لها الطعام والشراب وما تحتاجه، ضجَّ أهله، واستنكروا عمله، وغضبوا وقالوا: يكفيك ما خدمتها طوال هذا العمر، فأصرَّ على خدمتها، عندئذٍ سمحوا له أن يأتوا بها إليهم ليتابع خدمتها ويرتاح، ما هي إلا أيَّام حتَّى توفيت.
    فهذا الإنسان كان مؤمناً، هاجر إلى الحبشة، ارتدَّ عن دينه، عاقر الخمر، ما هي إلا أشهر حتَّى قضى نحبه وهو سكران مخمور.
    ثمَّ إنَّ رملة ما إن أتمَّت عدَّتها منه حَتَّى أتاها الفرج، قال: ففي ضحى يومٍ فضيِّ الثنا بهي القسمات، طُرِقَ عليها الباب، فلمَّا فتحته فوجئت بأبرهة.. امرأة اسمها أبرهة.. وصيفة النجاشي وهي تحيِّها وتقول لها:

    ((إنَّ الملك يهديكِ السلام ويقول لكِ: إنَّ محمداً رسول الله قد خطبكِ لنفسه، ووكَّلهُ أن يعقد عليكِ، فوكِّلي عنكِ من تريدين إذا شئتِ))
    فاستطارت أم حبيبة فرحاً وهتفت:

    (( بشَّركِ الله بالخير، بشَّركِ الله بالخير))
    حينما علم النبي عليه الصلاة والسلام هذا الوضع الصعب تزوَّجها، يجب أن تعلموا أن النبي عليه الصلاة والسلام هكذا يتزوَّج، لأسبابٍ إنسانيَّة، أرملة، مطلَّقة، لها بنت، تزوجها جبراً لخاطرها.
    ثمَّ قالت:

    (( لقد وكَّلت عني خالد بن سعيد بن العاص فهو أقرب الناس إليّ في هذه الديار))

    وفي قصر النجاشي اجتمع الصحابة المقيمون في الحبشة ليشهدوا عقد أمِّ حبيبة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلمَّا اكتمل الجمع، حمد النجاشي الله وأثنى عليه ثمَّ قال:
    أما بعد فإن الرسول عليه الصلاة والسلام طلب مني أن أُزوجه رملة بنت أبي سفيان، فأجبته إلى ما طلب، وأمهرتها نيابةً عنه أربعمئة دينارٍ ذهباً على سنَّة الله ورسوله ، ثم قام خالد بن سعيد بن العاص فحمد الله واستعان به، وصلى وسلَّم على نبيه ثمَّ قال:

    (( أمَّا بعدُ فقد أجبت طلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وزوَّجته موكِّتي رملة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله في زوجته، وهنيئاً لرملة بما أحظاها الله به من الخير))

    فكل واحد منكم أيها الإخوة إذا كان وضِعْ في خيار صعب، واختار مرضاة الله عزَّ وجل له مثل هذه النتائج، في عملك، في تجارتك، في زواجك، في بيتك، مع إخوانك، حينما تقف موقفاً صعباً وتؤثر مرضاة الله عزَّ وجل لابدَّ من أن تنال مثل هذه النتائج.
    أعدَّ النجاشي سفينتين من سُفُنْهِ، وأرسل عليهما أمَّ المؤمنين رملة بنت أبي سفيان وابنتها حبيبة، ومن بقي عنده من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، كما أرسل معهم طائفةً من الأحباش الذين آمنوا بالله ورسوله، وتَشَوَّقوا للقاء النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام والتملِّي منه والصلاة خلفه، وأمَّر عليهم جميعاً جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه، ثمَّ أهدى إلى رملة أم المؤمنين جميع ما عند نسائه من نفيس الطيب، والورس، والعود، والعنبر، كما حمَّلهم بعض الهدايا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان من جملة ما أهداه إليه ثلاث عصي من روائع عصي الحبشة.
    فأمسك النبي عليه الصلاة والسلام بواحدةٍ منها، أما الثانية والثالثة فأهداهما لعمر بن الخطَّاب وعلي بن أبي طالب، وقد كان بلالٌ رضوان الله عليه يمشي بين يدي النبي بالعصاةِ التي استبقاها لنفسه، وذلك في الأماكن التي لا يكون فيها مسجدٌ ولا بناءٌ يُحَدِّدان القبلة، وفي أسفار النبي عليه الصلاة والسلام، وفي العيدين، وفي صلاة الاستسقاء، وقد ظلَّ بلالٌ يمشي بها بين يدي أبي بكرٍ الصديق رضوان الله عليه، فلمَّا آلت الخلافة إلى عمر وإلى عثمان من بعده مشى بها بين أيديهما سعد القُرَظِي، ثمَّ تتابع الخُلفاء على ذلك زمناً طويلاً.
    كما أهدى النجاشي للنبي عليه الصلاة والسلام حِلْيَةً فيها خاتمٌ من ذهب، ما كان يعرف أن الذهب محرَّمٌ على رجال المسلمين، فأخذه النبي وإنه لمعرضٌ عنه، ثم أرسله إلى أُمامة ابنة ابنته ذهب وقال لها:

    (( تحلي بهذه يا بنيَّة ))

    وقبيل فتح مكَّة بقليل انتقل النجاشي إلى جوار ربِّه.
    فإنه قام بأشرف موقف، وقف مواقف مشرِّفة، وكسب الدنيا والآخرة، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاة عليه وقال: ((إن أخاكم أصحمَة النجاشي قد توفي فصلوا عليه))، ثمَّ أمَّهم فصلوا عليه صلاة الغائب، علماً بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على غائبٍ قبل النجاشي ولا بعده، لم يصل إلا على النجاشي لا قبله ولا بعده صلاة الغائب.
    رضي الله عن أصحمة النجاشي وأرضاه وجعل جنَّات الخُلد مثواه، فلقد قوَّى المسلمين السابقين من ضعفٍ وأمَّنهم من خوفٍ، وابتغى في ذلك مرضاة الله ورسوله.
    فالقصَّة مؤثِّرة، لكن الأبلغ منها أن تعلم علم اليقين أنك إذا آثرت مرضاة الله عزَّ وجل فأنت الرابح، ولكن قد لا يبدو لك في الوقت الحاضر المَخْرَج، الأمور ضيِّقة، طريق الحرام مفتوح على مصراعيه، وطريق الحلال مُغلق، الله عزَّ وجل يمتحنك، فإذا الإنسان إيمانه ضعيف يقول لك: مضطر فماذا أفعل ؟ هكذا الناس كلهم، كثيراً ما تقع هذه الحادثة أن تُفْتَح لك أبواب الحرام على مصاريعها، ويبقى باب الحلال مغلقاً، ماذا تفعل ؟ أتصبر أم تعتذر ؟ أنا مضطر، فإذا صبرت وآثرت رضوان الله عزَّ وجل تأكَّد أنه لابدَّ من أن يكرمك الله عزَّ وجل إكراماً تنسى معه كل المتاعب.

    * * * * *

    بقي فقرةٌ أخيرة من الدرس وهي: آفات اللسان وما أكثر آفات اللسان.
    الآفة الخامسة عشر هي الغيبة، لقد نصَّ الله سبحانه وتعالى على ذمِّها في كتابه الكريم وشَبَّهَ صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال تعالى:

    ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)﴾

    ( سورة الحجرات )
    وقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

    ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ))

    ( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
    العِرْضُ هو المَعْنِيُّ بالغيبة موطن المدح والذمِّ في الإنسان، والغيبة تتناول العِرْض، وعن مجاهد أنه قال في قوله تعالى:

    ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) ﴾

    ( سورة الهمزة )
    الهُمَزَة الطَعَّان في الناس، واللُمزة الذي يأكل لحوم الناس بالغيبة، وقال ابن عبَّاس: "

    ((إذا أردت أن تذكر عيوب الناس فاذكر عيوبك، وربَّما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار محسودك))
    كما قيل:

    (( وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويت أتاح لها لسان حسود ))
    أما التعريف الجامع المانع للغيبة فهو قول النبي عليه الصلاة والسلام:

    (( قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ قَالَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"))

    ( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
    وإنما حُرِّم الذكر باللسان بما فيه تفهيم الغير نُقْصَان أخيه، لذلك كان التصريح غيبة والتعريض.. فلان.. ولم يتكلَّم بشيء، والتعريض غيبة كالتصريح، والإشارة غيبة، والإيماء غيبة، والغَمْزُ غيبة، والهَمْزُ غيبة، والكتابة غيبة، والحركة غيبة، وكل ما يُفْهَم المقصود فهو داخلٌ في الغيبة، هذا الذي جاء البارحة وكان مسافر.. حكيت عنه.. وهو معروف من الذي كان مسافر، لك أخ جاء، لك ابن عم جاء من السفر أنت لم تقل اسمه بل قلت: كان مسافر وحضر، هذه قرينة تشير إليه فهي غيبة.
    فمن أومأ بيده إلى قِصَرِ أحدِ أو طوله أو حاكاه في المشي ـ أي قلَّده كما يمشي ـ والكتابة عن شخصٍ في عيبٍ به غيبة لأن القلم أحد اللسانين.
    أحياناً المغتاب يعمل نفسه صاحب دين فيقول لك: الحمد لله الذي لم يبتلينا بما فعل فلان الحمد لله يا رب لك الحمد، وهذه هي الغيبة بعينها، يحمد الله على أنه لم يبتله بما فعل فلان هذه كذلك غيبة.
    وأحياناً المغتاب ذكي يمدح المغتاب فيقول لك: يا أخي ما أحسن أحوال فلان لولا أنه فعل كذا وكذا، ما في أرقى منه، لكن في كم نقطة عليه، بعدما قال: ما في أرقى منه ذكر الغيبة كلها، فلو بدأت بالمديح غيبة، لو دعيت الله أنه أكرمك وأنجَّاك من الذنب غيبة.
    أحياناً المغتاب يغتاب شخص، فالحاضرين لا يهتموا، فينزعج، ويقول: سبحان الله ما أعجب هذا، هذا تسبيح ؟ لا ليس تسبيح إنه غيبة، سبَّح الله ليلفت النظر إلى الغيبة، فهو غيبة.
    أحياناً المغتاب يقول لك: والله أنا تألَّمت جداً لأن فلان فعل هكذا، أصابني غم لأنه أخي عبَّر عن اهتمام كاذب لكي يصل إلى ذكر ما في هذا الإنسان، انظر إلى هذه الأساليب الخبيثة كلها، يقول لك: اعتصر قلبي ألماً بما سمعت عن فلان من كذا وكذا، ويحكي لك كل القصَّة هو بدأ أن قلبه تمزَّق واعتصره الألم لما سمع عن فلان، هذه كذلك غيبة، أو يقول لك: والله فلان ابتلي بمصيبة أو بنقص لكن الله عافاه منها وتاب، لم نستفد شيء، ما دام تاب أنت فضحته لكن تاب الحمد لله، أنا معلوماتي أنه تاب، اغتبته، إذا كان تاب اسكت.
    الآن إنسان يغتاب، وأنت أصغيت له، عجيب، فلم تتكلم ولكن أعطيت اهتمام لقول المُغتاب، المغتاب تشجَّع وأضاف قصص جديدة، فهذا الذي يصغي إلى الغيبة واقع في إثم الغيبة فالإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجُّب غيبة، والتصديق بالغيبة غيبة، بل إن الساكت المستمع شريك المغتاب ؛ إلا أن ينكر بلسانه أو بلقبه إن خاف، قال عليه الصلاة والسلام:

    ((مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

    ( من مسند أحمد: عن " أبي الدرداء " )
    أيها الإخوة الأكارم... الغيبة من الكبائر، ولو صان الإنسان لسانه من الغيبة لكان المجتمع متماسكاً، حدَّثني صديق فقال لي: توجد عندنا سهرة أسبوعيَّة امتدَّ عمرها أكثر من سبعة عشرَ عاماً، كل سبت وثلاثاء توجد سهرة، الغريب أن مثل هذه السهرات تستمر لهذه السنوات الطويلة، فتعجَّب الأصحاب من استمرار هذه السهرة، فسأل بعضهم بعضاً: ما سرُّ استمرارها ؟ فقالوا: شيئان ؛ ليس في هذه المجالس غيبة، وليس فيها نساء.
    لو في اختلاط لا تستمر، ولو في غيبة لا تستمر، إذاً حينما تنزِّه مجلسك من الغيبة هذا المجلس يستمر.
    وكان أحد العلماء الأفاضل رحمه الله تعالى إذا تكَّلَّم إنسان كلمة أمامه عن إنسان آخر يقول له: " يابا اسكت أظلم قلبنا "، لا يسترجي أحد يتكلَّم أمامه كلمة.
    عوِّدوا أنفسكم، إذا كنت أب، إن كنت أخ، إن كنت معلِّم أن لا تسمح لمن حولك بأن ينهش في أعراض المسلمين، لأنه كما ينهش أمامك ينهشك.. من نمَّ لك نمَّ عليك.. من اغتاب في حضرتك اغتابك في غيبتك، هذه قاعدة.
    شيءٌ آخر، يذكر الإمام الغزالي من الأسباب الباعثة على الغيبة التشفي، الإنسان أحياناً يقع بينه وبين إنسان آخر مشكلة، خصومة، فأحد الطرفين يتشفَّى بذكر مثالب الطرف الآخر هذا باعث دنئ، أن تجعل التشفي سبباً للغيبة، لذلك النبي الكريم يقول:

    (( أمرني ربي بتسع: العدل في الغضب والرضى ))

    العدل الإنسان أحياناً يغضب فيغتاب، يرضى فيستِّر، يجب أن تكون عادلاً في الغضب والرضى.
    من أسباب الغيبة الداعية لها موافقة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، كأن تكون جالس في مجلس، وهم يتكلَّموا على فلان، فإذا أسكتهم يرون أنك ثقيل الظل، يابس، أنت من أجل مكانتك وأن لا يتكَّموا عليك فتشاركهم، فهذا باعث آخر موافقة الرفقاء، الحق قاسي، كلمة الحقِّ مُرَّة، فالمؤمن لا تأخذه في الله لومة لائم.
    أحياناً من بواعث الغيبة إرادة التصنُّع والمباهاة وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، باعثها الكبر، هو لا يفعل هذا، هو فوق هذه المشكلة، وأحياناً يكون الحسد هو باعث الغيبة، وهو أن يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرِّمونه، فيريد زوال هذه النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إلا بالقدح فيه حتَّى يكفُّوا الناس عن الثناء عليه وإكرامه.
    ومنها اللعب والهزل وتزجية الوقت بالضحك، هذا أيضاً باعث من بواعث الغيبة، ومنها السخرية والاستهزاء استحقاراً ومنشأه الكِبْر، والسيدة عائشة رضوان لله عليها قالت عن أختها صفيَّة: إنها قصيرة قال النبي:

    ((يا عائشة لقد قلتِ كلمةً لو مزجت بمياه البحر لأفسدته))

    فالاستقامة التامَّة تسبِّب أن يُفْتَحَ الطريق بينك وبين الله، وأكثر شيء يقع فيه المسلمون في حياتهم اليوميَّة هي الغيبة، فقد تكون السرقة، وشرب الخمر، والزنا أبعد عن المسلم من الغيبة فالغيبة أقرب تناولاً، الإنسان طوال يومه مع أصدقائه، مع إخوانه، مع جيرانه، الحديث عن فلان وفلان، وعلان، وزيد وعبيد، فيقع معظم الناس بالغيبة وهم لا يشعرون.
    وسوف نأخذ في درسٍ قادم إن شاء الله تعالى العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة، وكيف أن الغيبة مُحَرَّمةٌ بالقلب وباللسان.

    والحمد لله رب العالمين
    موقع النابلسي

      الوقت/التاريخ الآن هو نوفمبر 24th 2024, 22:05