من كتاب :
""الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ""
لابن قيم الجوزية ..
المعاصي تمرض القلوب
ومن عقوباتها : أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه ، فلا
يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه ، فإن تأثير
الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان ، بل الذنوب أمراض القلوب
وداؤها ، ولا دواء لها إلا تركها .
وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطى مناها حتى تصل إلى مولاها ،
ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب
داؤها ، فيصير نفس دوائها ، ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها ، فهواها
مرضها ، وشفاؤها مخالفته ، فإن استحكم المرض قتل أو كاد .
وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه ، فكذا يكون قلبه في هذه
الدار في جنة عاجلة ، لا يشبه نعيم أهلها نعيما البتة ، بل التفاوت الذي
بين النعيمين ، كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة ، وهذا أمر لا يصدق
به إلا من باشر قلبه هذا وهذا .
ولا تحسب أن قوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ سورة
الانفطار : 13 - 14 ] مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم
الثلاثة كذلك - أعني دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار - فهؤلاء في
نعيم ، وهؤلاء في جحيم ، وهل النعيم إلا نعيم القلب ؟ وهل العذاب إلا عذاب
القلب ؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن ، وضيق الصدر ، وإعراضه عن
الله والدار الآخرة ، وتعلقه بغير الله ، وانقطاعه عن الله ، بكل واد منه
شعبة ؟ وكل شيء تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب .
[ ص: 77 ] فكل من أحب شيئا غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار ، فهو
يعذب به قبل حصوله حتى يحصل ، فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه
وفواته ، والتنغيص والتنكيد عليه ، وأنواع من العذاب في هذه المعارضات ،
فإذا سلبه اشتد عليه عذابه ، فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار .
وأما في البرزخ : فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجو عودة وألم فوات ما
فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده ، وألم الحجاب عن الله ، وألم الحسرة
التي تقطع الأكباد ، فالهم والغم والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما يعمل
الهوام والديدان في أبدانهم ، بل عملها في النفوس دائم مستمر ، حتى يردها
الله إلى أجسادها ، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر ، فأين هذا
من نعيم من يرقص قلبه طربا وفرحا وأنسا بربه ، واشتياقا إليه ، وارتياحا
بحبه ، وطمأنينة بذكره ؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه : واطرباه .
ويقول الآخر : مساكين أهل الدنيا ، خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها ، وما ذاقوا أطيب ما فيها .
ويقول الآخر : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .
ويقول الآخر : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
فيا من باع حظه الغالي بأبخس الثمن ، وغبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى
أنه قد غبن ، إذا لم يكن لك خبرة بقيمة السلعة فسل المقومين ، فيا عجبا من
بضاعة معك الله مشتريها وثمنها جنة المأوى ، والسفير الذي جرى على يده عقد
التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد
بعتها بغاية الهوان ، كما قال القائل :
إذا كان هذا فعل عبد بنفسه فمن ذا له من بعد ذلك يكرم
ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء [ سورة الحج : 18 ] .